إن كان لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تستفيد من تجربة من سبقوها، فأوروبا تخط لنا دروساً جديدةً، كيف تتعامل مجتمعة مع أزماتها الاقتصادية، رغم كل الظروف. نحن نتابع خلافاتهم ونقاشاتهم، بحكم الشفافية وما تتناقله وسائل الاعلام، ولا يعني هذا -في حقيقة الأمر- خلافاً بقدر ما يبين أن هناك حوارا يهدف الوصول إلى حَل وليس التملص من حَل. لنأخذ مثلاً أزمة اليونان، دول الاتحاد الأوروبي لم تترك اليونان وهي التي تكابد حالياً بعد أن تخلفت عن سداد التزاماتها لصندوق النقد الدولي.
اليونان بلد مجهد اقتصادياً، يعاني معاناة مزمنة من البطالة، ومن فسادٍ وبيروقراطية حكومية غير كفؤة، وتعمه فوضى في ماليته العامة، فالتهرب الضريبي طريقة حياة بالنسبة لقطاع الأعمال هناك، وممارسة شائعة للأفراد، مما أدى بالحكومة لمراكمة ديون هائلة، حتى قبل الأزمة المالية العالمية، ومع ذلك كان الانفاق الحكومي في تصاعد! وهذا أمر كارثي بالنسبة لدولٍ تمثل أموال الضرائب المصدر الأساس لدخل الحكومة.
وحدثت «المفاجأة» غير المفاجئة؛ بأن أعلنت اليونان أنها لن تتمكن من السداد، وكان هذا أمراً متوقعاً، فهي لم تعمل على الوفاء بما وعدت به، بل وعدت بالكثير ثم أخذ السياسيون يتناقشون وفقاً لتياراتهم، وأخذت الغوغاء السياسية تسيطر على المشهد، وتقول لماذا علينا سداد هذه الديون؟ ولماذا على اليونان التقشف؟ أناس يتهربون من دفع الضرائب المتوجبة عليهم لحكومتهم، لن يدفعوها لسداد ديون، بل سيسعون -بطبيعة الحال- للتهرب من سدادها بإيجاد الذرائع والأسباب، بل ذهبوا للقول إن الحل هو في خفض قيمة اليورو، حتى تصبح بضائع وخدمات اليونان أكثر تنافسية، لكن اقتصاد اليونان يتقلص، وأهم أنشطتها الاقتصادية السياحة والشحن البحري.
لكن لم يكن عدم السداد مفاجئاً، فقد كانت الالتزامات على اليونان صعبة التحقق من الأساس فضلاً عن أن معايير التقشف تصاعدية، فقد عرضت عليها «ترويكا» الدائنين مزيداً من التمويل مقابل رفع الضرائب وخفض المعاشات التقاعدية. لكن أوروبا ساعدت اليونان فجل الديون التي تتجاوز 330 مليار يورو هي ديون أوروبية. وبعد أن أخذت اليونان الأموال ووقعت المواثيق يبدو أنها ستقول للأوروبيين «بلوها واشربوا ميتها! ومؤخرا هناك من عاد للدفاتر القديمة، ليُذكر أن اليونان في العام 1953 أعفت ألمانيا الغربية من قروضٍ كانت مستحقة عليها، وأن اليونان اشترطت شروطاً تُحفز ألمانيا على النهوض الاقتصادي، وأن اليونان لم تتعسف في المطالبة مع ألمانيا! وأن الآن هو الوقت لترد ألمانيا الجميل، بأن تكون أكثر واقعية، فتوافق على منح مزيد من القروض وبفترات سماح ممتدة (20 سنة أو أكثر)، وبدون إصرار على مزيد من التقشف، الذي يراه اليونانيون بدأ يمس كرامتهم.
ولعل لا وجه للمقارنة بين تجربة الاتحاد الأوروبي وتلك التي انتهجها مجلس التعاون، فالتجربتان مختلفتان تماماً، فيما عدا أنهما تكتلان لمجموعة من الدول، وأزعم أن ثمة فارقا إضافيا؛ أن دول الاتحاد الأوروبي تدفع بالأجندة الاقتصادية بالتوازي من بقية الاجندات مهما كانت الظروف حالكة، في حين أن مجلس التعاون يضحي عملياً بالسياق الاقتصادي عند كل سانحة. وأتمنى ألا يعدد لي أحدٌ القرارات التي تتخذ، وإن كان ولابد فليعدد ما ينفذ على أرض الواقع، والمبادرات التي أدت لتقارب اقتصادات دول المجلس لتكون اقتصاداً واحداً!
واضحٌ أن التحديات التي تكابدها منطقتنا كبيرة، وهي تتطلب تقارباً وتنسيقاً أكثر من أي وقت مضى، بل ان القوة الاقتصادية المجتمعة لمجلس التعاون يمكن أن تحدث تغييراً هائلاً لتحويل منطقة مجلس التعاون لمنطقة اقتصادية رئيسية في العالم، وهذا يتطلب الدفع بالملفات الاقتصادية على مساق سريع موازٍ لبقية المسارات التي -عادة- ما تستأثر بالاهتمام سياسياً وأمنياً وعسكرياً. وهناك الكثير مما يمكن أن يُطرح لتحقيق ذلك، لكن الدفع بالتقارب النقدي وفي القطاع المالي والاستثماري هو الأساس، فهذه القطاعات هي مرتكز الاقتصاد، وهي التي ستحدث الفارق بأن تكون دول مجلس التعاون منطقة نقدية واحدة، ومنطقة مالية واستثمارية واحدة. أدرك أن هناك من يرى، ولا أتفق معه- أن الوقت غير ملائم، وأن أمامنا أولويات أعلى وأولى، لكن عند تدبر النظر بما يكابده المناخ الاستثماري في منطقتنا من تحديات ندرك أهمية التحرك جماعياً لتحقيق مكاسب ونمو اقتصادي يعوضنا عما فقدناه نتيجة لتراجع إيرادات النفط وللإنفاق على المتطلبات الأمنية المتصاعدة.
أعود للبداية لأقول لمن قال قبل نحو ثماني سنوات للتريث في إطلاق العملة الخليجية الموحدة، ريثما يرى ما الذي سيؤول اليه اليورو، أن منطقة اليورو استوعبت الأزمة المالية العالمية، وانقذت اليونان، بل وبينت أن «اليورو» أكبر من اليونان، فهي تقول حالياً: لتخرج اليونان وليبق «اليورو». هناك دائماً فارق نوعي بين اللعب الجماعي واللعب المنفرد!