هناك، بل هنا من يحاول حصار التاريخ في زنزانة زجاجية ذات بريق يسميها «العصر الذهبي» أو خير العصور.. ويحاول أن يحصر التاريخ هناك وكلما حاول الإفلات أخذه من رقبته وجره إلى هناك.
قد يكون عصر ما ذهبيا أو خير العصور في ناحية محددة من النشاط الإنساني، ولكنه لن يكون مطلقا خير العصور في كل لون من النشاط الإنساني بأجمعه، ذلك لأن التاريخ هو فعل الناس، وفعل الناس صيرورة تراكمية لجميع النشاطات البشرية الروحية والمادية، والصيرورة لا تتوقف عن النمو فكيف نعيدها؟ وهل يعود النهر إلى الوراء؟
إن الذين يقفون فاغري الأفواه والعقول أمام التاريخ يملؤهم الحنين الأجوف إلى عصر أهال عليه الزمن التراب.. هؤلاء يتبعون ابن أبي ربيعة وهو ينشد:
وجلست كالمهريق فضلة مائه
في يوم هاجرة للمع سراب
نعم، إنهم يهدرون دم حاضرهم وانتظار مستقبلهم للمع سراب ماض لا يمكن أن يعود إلا في ذهن مريض الخيال أو شاعر معتوه يتغزل بالظلام ويعلق معلقته على أشباح الأطلال.
الانبهار أو التقديس لفضيلة ما في عصر من العصور لا يمكن أن يتوقف النشاط الإنساني للعودة إليها ولا بد أن يضحك المرء وهو يقرأ- مثلا- لأحد الأسماء اللامعة في حزب البعث بأن العصر الجاهلي هو خير العصور ولا بد من العودة إليه حيث صفاء اللغة التي عكرها الأعاجم..
إن الداء الفاتك الذي يعيث فينا تحطيما هو التصديق السريع بما نسمع خاصة في فترة الثقافة السمعية التي لم نخرج منها حتى الآن والممتدة إلى ما نسميه العصر الجاهلي ولأضرب لك مثلا:
جاء في الرسالة القشيرية: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة ونصف يوم) انتهى هل تحسب أن هناك من لا يصدق هذا؟ هل تظن أن هناك من سأل: كيف عرف هذا القائل نصف اليوم المضاف إلى الخمسمائة؟ ولماذا لم يكن يوما كاملا؟ أبدا ليس هناك من كذب إلا القليل وليس هناك من سأل إلا الأقل.
وهناك الآلاف وهنا من صدق هذا، أما الفقراء من هؤلاء المصدقين فقد راحوا يرقصون فرحا لأنهم سيدخلون الجنة قبل الأغنياء.