عموماً، القضاء ثلاث شعب؛ قضاء اتهام، قضاء حكم، قضاء تنفيذ. ولذا فإن كيل التهم أو قذف مواطن لاعتبارات تتصل بانتمائه لطائفة أمر يستحق أن نجرمه قانوناً؛ فنحن لا نمتدح أن يُخلص المواطن لوطنه ويتفانى في خدمته فهذا واجبه، ولا يضيره أن مواطناً آخر مقصر أو فاسد او مرتشٍ.. فهؤلاء يبقون شواذ عن القاعدة، كثروا أو قلوا. كما أن الخطأ لا يُجابه بخطأ. أما أن يطعن أحدٌ (في قصيدة أو خطبة أو أهزوجة أو تغريدةٍ أو مداخلةٍ متلفزة أو مسموعة أو مقروءة) في تمام مواطنة مواطنٍ على أساس مذهبي أو طائفي فهو اتهام يستوجب العقاب، فهو اتهام فيما لابد منه؛ فوجوب الولاء للوطن لا يقوم على شرط ولا يمنعه عذر، ولذلك لا يجوز اتهام مواطن في شرفه الوطني.
وطلباً للتحديد، فالنظام الأساسي للحكم بَيّنَ أن المملكة العربية السعودية دولة عربية اسلامية، أي ان مواطنيها عرب مسلمون، فليس لأحد أن ينصب من نفسه حكماً لينزع المواطنة عن مواطن أو ينتقص منها؛ فالمواطنون أنداد متساوون في حقوقهم وواجباتهم. على من يشك في إخلاص أحد أبناء وطنه الذهاب لأقرب محكمة مختصة مصحوباً بالأدلة والمستندات ليترافع ضده في دعوى أمام محكمة مختصة ولتأخذ القضية مجراها، أما أن يمتشق منبراً أو وسيلة تواصل اجتماعي آخذاً الناس بالظن ملقياً الكلام على عواهنه، حاسراً ومشككاً في ولاء المواطنة تارة، ومانحاً ومثبتاً أخرى، فهذا أمر لا يستقيم عقلاً ولا نظاماً؛ فهو يخوض في ملك غير قابل للصرف أو التصرف؛ فمواطنة الشخص لا تنفصل عنه تماماً، كسحنته أو بصمته أو حتى ابتسامته، وبذلك فهي لا تُقلع ولا تُقطع ولا تُخلع.. وفوق ذلك فالطعن في وطنية ومُواطنة شخص تهمة خطيرة عقابها عسير فليس من العقل أن تنسب دون سند.
وما دام أن الاتهام الطائفي بناء على الظواهر السياسية بات متداولاً، فأقول: إن تعزيز النَفَس الطائفي يتناقض مع المصلحة الوطنية حكماً؛ فهو ينهش في وحدة الصف لمصلحةِ او لمَذمةِ واحدة أو أكثر من فئاته، وبذلك يختل الصف.. وأعود للنظام الأساسي للحكم الذي وصف مملكتنا بأنها "دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة"، فأقول إن العروبة تشمل ما يزيد عن 300 مليون في 22 دولة عربية، وأن الاسلام ديانة ما يقدر بنحو 1.5 مليار شخص، كما أن عدد الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي 57 دولة، وبالقطع فليس متصوراً أن ترتبك ولاءات مواطنين لتتجاوز بلدانهم الأم بحكم عروبتهم أو اسلامهم أو تبعاً لانتماءاتهم التفصيلية ضمن العروبة كالقبيلة أو ضمن الاسلام كالطائفة، فالولاء للوطن لابد أن يكون تاماً غير منقوص. وبالقطع هناك من يتصور أن ثمة أسياج وامتدادات تتجاوز الوطن مفترضاً أن تلك الامتدادات تمثل تبعيات عابرة للأوطان. وهكذا، فاتهام أي مواطن في ولائه لا يصح بناؤه استناداً لمذهبه أو انتساباً لطائفة، بل لابد أن يوجه من جهة مخولة نظاماً إلى شخص بعينه بناء على اتهام محدد يقوم على حقائق ووقائع واستنادات. وعليه، فمن الصعب ترك الاتهامات المرسلة تمرّ دون مساءلةٍ؛ فهي تمثل أخطر ما يمكن أن يتهم به مواطن: قذفاً في وطنيته وإخلاصه لبلده.
أما الاتهامات الجرارة القائمة على أرضية مذهبية أو طائفية أو فئوية، فهي لا تعدو تهيؤات وسوء ظن؛ إذ لم نشهد أو آباؤنا أو أجدادنا أو أجدادهم أو آباؤهم- حبائل أو دسائس من أي طرف. وأقرّ أن تجربتنا التاريخية ليست مثالية لكنها حقيقة تثبتها الشواهد. ومادام المتوقع من كل مواطن أن يضع مصلحة وطنه أولاً فلنفعل ذلك، وعلينا أن نستحضر إرث هذه الأرض في التعايش والتآلف والتكافل، بل ونجعل تجربتنا نبراساً للآخرين نقودهم بها ليتعلموا منها.
أما من يُصرّ أن يُسقط أحداثاً خارجية على وطننا أرضاً وشعباً فهو –في ظني- يستبدل الأدنى بما هو خير، حيث يجلب بضائع مستوردة ليستشهد بها في أوضاع محلية!.. قد تفيد لتدبيج عبارات بلاغية فخمة لكنها تبقى خارج السياق. أدرك أن ثمة بلدانا ومجتمعات كابدت من التنازع والانقسام، لكن تجربتنا أرقى وأصلد من تلك التجارب حضارياً وفكرياً، فقد تمكنت على مدى قرون من صيانة المجتمع وسلمه العام باعتباره ضرورة للحفاظ على الاستقرار الذي هو عماد أي نشاط بشري متحضر منتج، وقد أفرز إرثاً للتعايش امتد لا يسمح للتفرس في السحنات والأسماء فرزاً وتصنيفاً، فكل السحنات سواء، ولن يفيد التفرس الباحث عن فوارق فهو لن يجدها ولا يجدر بأحد أن يصطنعها، ولا يجدر بنا أن نشجع أي أحدٍ أن يصنعها، بل علينا ردعه وزجره وإيقاع العقاب به، صيانةً لوحدتنا الوطنية، كما خطها النظام الأساسي للحكم.
* متخصص في المعلوماتية والإنتاج