عرفت كثير من الشعوب ظاهرة اختلاف الألوان في الطبيعة، وفي مصنوعات الإنسان، وحتى انعكاسات الأضواء، وتغير تلك الألوان؛ فينخدع برؤية لون غير ما يكون عليه ذلك اللون في الواقع. وكان الإنسان في بدايات تعرفه على اختلاف الأشياء في ألوانها، أو هذه الظاهرة التي أصبح يعرفها بهذه الطريقة، ومكنته من معرفة كثير من الفروقات؛ قد اعتقد بأن الضوء ينعكس من العين على تلك الأشياء، فيحدد لونها من خلال قدرة الأشعة التي تنعكس على الأشياء حتى على الرؤية قبل تعيين خصائصها.
لكنه في وقت لاحق من تقدم العلم، اكتشف أن الأشعة تنعكس من الشيء إلى عدسة العين، عندما ينظر المرء إلى شيء ما. فيكون تحديد الخصائص ليس مصدره العين، كما اعتقد الأولون، بل هي لا تعدو كونها سطحاً مستقبلاً للأشعة المنعكسة، ثم ناقلاً إياها إلى الدماغ لتفسيرها. لكن ذلك كله في إطار علم الفيزياء، والذي أصبح من أوليات المتخصصين في العلوم الطبيعية. فماذا عن أبعاد الموضوع النفسية والثقافية؟
تُعرف الألوان بأنها من أكثر الظواهر إثارة للبشر، بدءاً من قوس قزح، الذي تتبدى ألوانه جاذبة للانتباه في السماء بعد الأمطار، إلى أنواع الكائنات المختلفة، التي يميز الإنسان أحياناً بينها من خلال ألوانها؛ سواء كانت من الحيوانات الكبيرة المفترسة، أو الصغيرة السامة، أو كانت من الحيوانات أو النباتات، التي يتخذها المرء أساساً له في طعامه. ويزيد الأمر تنوعاً الكائنات والنباتات البحرية، التي تزخر بألوان زاهية، ومدهشة للإنسان عند تعرفه إليها، خاصة بعد أن وصل إلى مسافات عميقة في البحار بواسطة وسائل حديثة تمكنه من البقاء طويلاً هناك، ويستطيع من خلالها اكتشاف المزيد من الكائنات البحرية. لكن الثقافة لم تبدأ بمعرفة المزيد عن تلك الأنواع وألوانها وخصائصها؛ بل عندما حاول الإنسان نقل ما يراه في الطبيعة، وما يلفت نظره من الفروق إلى مجالات الحياة الأخرى، وخاصة في مجال التجريد والعواطف، قياساً إلى قدرته على التخيّل والمقارنة باستعارات وكنايات لا حدود لها في اللغة.
فعندما يحب البشر في بيئة معينة حيواناً، أو نباتاً يفضلون مذاقه، ويستخدمونه في أطعمتهم كثيراً؛ فإنهم يبدأون في إعطاء صفته أو لونه للمحبب من أفعالهم، وللجميل من مشاعرهم. وخلاف ذلك يطلقون ألوان الكائنات غير المحببة لهم على ما يستكرهونه من أفعال أو ظواهر أو أحوال، بل أحياناً تكون رمزية لون ذلك الكائن كافية للتعبير عن بؤس الحال والنفور من الوضع الموصوف.
فمن لا يعرف الدلالات التي يحملها اللون الأصفر من البؤس وعدم الصدق في الثقافة العربية؛ بدءاً من وصف ضحكة السخرية «بالضحكة الصفراء»، والكتب غير المفيدة «بالكتب الصفراء»، وكل ما فيه ذبول وعبوس بالصفرة؟ ومن يجهل وصف الأشياء الإيجابية لدى العرب باللون الأخضر؛ بدءاً من «القلب الأخضر» الدال على الشباب والينوع، «والدرب الأخضر» السالك والمثمر؟ وكلاهما لا يصل إلى مرحلة اللون الأسود، الذي قد يكون لليل دور في الحكم السلبي عليه (رغم كون العرب يحبون الليل مع السهر في قمره أو تحت النجوم عند غيابه)، وقد يكون للطائر المكروه لديهم الغراب الدور الحاسم في كون هذا اللون أصبح ذا دلالة سلبية.
بقي أن نتذكر ما دار في وسائل التواصل قبل فترة وجيزة عن لون الفستان؛ هل هو أزرق أم ذهبي؟ وكيف يكون تصنيفك إن رأيت هذا اللون أو ذاك؟ لكي نعرف أن الإنسان يتملص من معارفه وتطوراتها عمداً وبطريقة فجة، لكي لا يتهم بالغباء!