على إثر إعلان مجلس النواب الليبي بتاريخ ٢٣ فبراير ٢٠١٥م، تعليق مشاركته في جلسات الحوار التي انطلقت منذ أشهر، بين الفرقاء الليبيين، تلقيت عددا من الأسئلة من أشخاص يولون تطورات الشأن الليبي أهمية، كان أبرزهم رجل إعلام نابها زاد على استفسارات وأسئلة الآخرين، استغرابه من أن مصدر مقاطعة الحوار هذه المرة، هو مجلس النواب الذي تنبثق عنه الحكومة المؤقتة برئاسة السيد عبدالله الثني. ولم يكن الطرف الآخر الأبرز في الصراع الدائر هناك، وأعني به ما يُعرف بالمؤتمر الوطني الليبي العام الذي انتهت مهمته حسب الإعلان الدستوري في ٢ فبراير ٢٠١٤م والذي كان تقليديا يعترض على المساهمة في جلسات الحوار التي عُقدت تباعا في غدامس الليبية ثم في جنيف السويسرية، وأعلن عن عقدها مجددا في المملكة المغربية أواخر فبراير الماضي، ولكن هذا الموعد تم تأجيله أو إلغاؤه لا فرق.
وأجد من المنطقي، بيان سبب استغراب السائل من إعلان مجلس النواب بعد التصويت على مقاطعة الحوار، والذي في ظني، يكمن في حالة من الإحباط العام اجتاحت الفريق الذي يمثل الشرعية في ليبيا من عدم تمكن تيار عربي معين من تمرير مشروع قرار يسمح برفع الحظر عن تسليح الحكومة الشرعية والقوة العسكرية المنضوية تحت لوائها والتي تعلن في كل مناسبة، أنها تمثل رأس الحربة في صراع ومواجهة الإرهاب في ليبيا، نيابة عن المجموعة الدولية.
ويجب تفهم هذا الطلب للحكومة الليبية بأنه لا يعكس ازدواجية الإيمان بالحوار، وفي ذات الوقت الدعوة إلى التسلح، وبالتالي مقارعة الخصوم عسكرياً. بقدر ما هو مطلب طبيعي لتكوين نواة لجيش يمكن أن يعيد للبلاد شيئا من اعتبارها في مواجهة الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، ولتلك الجماعات التي تتحين حدوث الفراغات الأمنية لتشغلها بدرجات عالية من العنف والرعب. ولعل أبرز النقاط التي وضعت الحكومة الليبية المؤقتة ومجلس النواب في هذا الخيار الصعب والدقيق، مجموعة من العوامل التي توالت بشكل ضاغط في الآونة الأخيرة، وأبرزها: انتشار المجموعات الإرهابية بصورة ملموسة على الأرض الليبية، واصطباغ مدن ومناطق معروفة هناك بطابع تلك الجماعات من حيث إعلان الإمارة والمبايعة وتطبيق ما يُقال إنه قوانين وأنظمة الدولة الجديدة. هذه الموجة توجت بالجريمة البشعة لإعدام عدد من الأبرياء من الجنسية المصرية، الأمر الذي زاد من درجة التصعيد ليبيّا وإقليميا وتُوج هذا التصعيد بالضربات العسكرية للقوات المسلحة المصرية على أهداف منتقاة وفي مدن ومواقع تابعة للتنظيمات الإرهابية داخل الأراضي الليبية، جملة هذه التصعيدات الخطيرة أوجدت انقساما إقليميا ودوليا في مجلس الأمن وفي مشاورات الدول العربية ودول جوار ليبيا، وكذا في نظرة وتحرك القوى الدولية لمواجهة التطورات التي تتكاثر بصورة غير مسبوقة على الإقليم الليبي.
في هذه الأجواء المشحونة، كانت خيارات الأطراف الليبية أكثر ارتباكاً وربما برزت تبعاً لذلك ظاهرة التهديد بتعليق الحوار. وكان لزاماً الركون إلى نوع من التهدئة العامة والعودة من جديد إلى أمرين مهمين في تقديرنا؛ هما: تذكير الأطراف المتصارعة أنه وإن كان يقينها العام بناء على ما يتجلى لها من معرفة بطبيعة الوضع الليبي العام، أنه لا خلاص من دوامة الفوضى الحالية إلا بالسلاح، فإن هذه المرحلة هي مرحلة حوار، ويجب على الجميع السير في تيارها العام، وهذا في أغلب الظن ما قام به ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السيد برناردينو ليون في الأيام الأخيرة من شهر فبراير بين الأطراف الليبية عبر عدد من اللقاءات بين طبرق وطرابلس.
أما الأمر الآخر، فتمثل للمراقبين في الدرجة المتفاوتة من الاهتمام بتطورات الأوضاع في ليبيا وتقديرات انعكاساتها على مصالح الدول الجارة لليبيا على الضفة الأخرى من المتوسط. وفي الواقع، فإن كل الدول الأوروبية قدرت بطريقة أو بأخرى ميزان الأرباح والخسائر التي ستواجهها في حال انهيار الأوضاع بشكل كامل في ليبيا، ابتداء من البلد الأصغر حجما والأقرب مسافة من ليبيا وأعني به مالطا، ثم تأتي باقي الدول الأوروبية، ولكن يبقى الموقف الايطالي أكثر تلك المواقف بروزا وحرصا على تجنب تداعيات الأزمة الليبية، حيث أشارت السلطات هناك بضرورة معالجة الوضع في ليبيا على نحو مختلف، وتحدث مسئولون إيطاليون عن عزمهم الاقتراح مستقبلا، تغيير مندوب الأمين العام للأمم المتحدة الحالي إلى ليبيا واستبداله بوجه سياسي ايطالي، إضافة إلى أن قطعا عسكرية إيطالية تحركت بشكل نشط منذ الأسبوع الأخير من فبراير الماضي قبالة الشواطئ الليبية بحجة مراقبة أوضاع تدفق موجات المهاجرين إلى الأراضي الإيطالية القادمين عادة من ليبيا ومن دول جنوب الصحراء.
هذه الضغوط وربما معها غيرها، جعلت مجلس النواب يعلن العودة للحوار في الثاني من مارس الحالي مع استمرار المطالبة بالتسليح، وخيراً فعل.
* مستشار وباحث في الشأن الدولي