يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المملكة في ثاني زيارة له بعد تولي خادم الحرمين الملك سلمان الحكم، حيث كانت الأولى للمشاركة في تشييع الملك عبدالله، وهو ما يعكس مكانة المملكة وتحسّن العلاقات بين أكبر دولتين في المشرق الإسلامي واهتمامهما المشترك.
وتركيا تُمثل جسر العلاقة المهم جدا كمحور اقليمي قوي في الشرق الإسلامي والمشرق العربي، وهي الدولة الصاعدة فيما يُسمى بتركيا الأمة أي الناطقة بلغتها والتي تستعيد اليوم حضورها في آسيا الوسطى والبلقان وغيرهما.
ولذلك يجدر بنا أن نقرأ هذا الصعود التركي الجديد والمتماسك قبل الاستطراد في مصالح الخليج العربي المشتركة او المتقاطعة مع أنقرة وخصوصا المملكة، وهو يُطرح اليوم في هذا المنظور السياسي الإقليمي المهم جداً للخليج العربي، في ظل عواصف وتغيرات كبيرة تعيشها المنطقة وتداخلات الحدود والصراعات.
كما أن هذا التقارب الإسلامي الإقليمي بين الرياض وأنقرة، يأتي في ظل تفاقم الوضع الإنساني والسياسي في سوريا، بعد زحف إيراني شرس اليوم والأمس مكنّه من مفاصل حسّاسة في المنطقة وتضغط طهران باتجاه يُقلّص الحضور العربي وحقوق الشعوب مقابل قوة نفوذها واستمرارها في ضخ التكييف السياسي للاحتقان الطائفي، والذي تعيشه عدة دول وترى فيه طهران حصان طروادة لن تتخلّى عنه.
إن إعادة كشف الحساب لآخر الملفات بين طهران والخليج العربي في اليمن أظهر لدول الخليج العربي وخاصة السعودية، حجم ما يُمكن أن تحقّقه جماعات إيران السياسية الطائفية في توازنات اليمن وعلاقته بالعمق العربي الإسلامي والوطني الاجتماعي في الخليج العربي، والملف متعدد في هذا الاتجاه، الذي يؤكد أن قدرات الخليج العربي معدومة تفاوضياً لأنها فاقدة لبطاقات النفوذ مع طهران، والمراهنة على حرب أسعار النفط مشروع موسمي سيسقط سريعا.
في المقابل عجزت المعارضة التركية المقربة من نظام الأسد وإيران عن اسقاط حكم حزب العدالة بعد الحسم في الانتخابات البلدية والرئاسية، وقوة بنائه السياسي والالتفاف الشعبي معه، وهو ما يُعطي مؤشرا على أن هذا الثبات السياسي في تركيا سيأخذ مداراً مستقراً لسنوات أمام عواصف المنطقة ولديه قُدرات بأن يواجه أزماته الداخلية ومحاولات أي محاور لزج تركيا الى منطقة صراع خارج قرار سياستها السيادية.
وهو ما يعني للمملكة والخليج العربي قضية مهمة في أعراف التعامل الدبلوماسي، وهو أن هذا الوضع المستقر في تركيا يعني الاعتراف به والتعامل معه في إطار مصلحي وهو ما بعثته على الفور رسائل الإدارة السياسية لخادم الحرمين، وأي مراقب يُدرك أن البراغماتية حاضرة في سياسة انقرة بل وتتعزز في ظل امساك مُنظّر العهد الجديد أحمد اوغلو بالبرنامج الحكومي الشامل ودعمه من الرئيس أردوغان.
وهو ما تتعاطى معه أوروبا وأمريكا وروسيا كما وضح في زيارة بوتن الأخيرة لتركيا، وهو المدخل في التعامل مع الدول وليس المواقف أو النزوات العاطفية، وخاصة مع دولة في حجم تركيا تبعث رسائل متتالية لاهتمامها بمكانة المملكة وحرصها على التنسيق المشترك معها.
فيما متطلبات المرحلة لدول الخليج العربي تحتاج الى محور رديف أو داعم أو صديق في ظل هذه التحولات الكبرى، ولذلك يتم البناء على امكانياته وعلاقاته وجسوره المتاحة في الجوار وليس نقضها، إن طبيعة القاعدة الاجتماعية السياسية في تركيا اليوم منفصل تماما عن أي استقطاب طائفي أو قومي أو عرقي مع دول الخليج العربي، بمعنى غياب أي مهددات تدخل سلبية مع الخليج العربي، وقصة عودة السلطنة هي اليوم مناكفات إعلامية ساخرة لا أكثر، فتركيا اليوم تُصنع دستوريا بدولة حديثة وبرلمان لا فرمانات سلطانية.
هنا ستقفز العديد من الملفات لمصالح المملكة والخليج العربي مع أنقرة لتستدعي إقامة حوار استراتيجي وتنسيق المواقف، في عدة ملفات ستحصد فيه دول الخليج العربي فوائد كبيرة خاصة في حجم دولة مركزية عربية مهمة كالسعودية، فما يمكن أن يُطلق عليه الاحتواء المزدوج لداعش وإيران بالإمكان تحقيقه عبر شراكة سعودية تركية، لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه حقيبة ملفات من العراق الى اليمن وصولاً الى تأمين أمن استراتيجي في البحرين عبر هذه الترويكا المهمة والحيوية للجانبين التركي والخليجي العربي بقيادة الرياض.
إن ما سمعناه مباشرة كمراقبين خليجيين من شخصيات إعلامية كبيرة مقربة من حزب العدالة الحاكم كان يحمل اهتماما كبيرا جدا على ما تتأمله الأوساط السياسية في تركيا لعلاقة خاصة مع الرياض، قد يكون أولها مصالح للعلاقة الثنائية، يفتح الباب لمعالجات كبرى تنزع فتيل انفجار الشرق في ملفات عدة ويصحح مسارات ويخلق تهدئة تحتاجها كل شعوبه.
باحث ومحلل سياسي مدير مركز دراسات الشرق