لا أعرفه، وقتها كنت رئيسا لقسم الاقتصاد والإرشاد الزراعي، ما زلت أذكر أول لقاء، باركت له الدكتوراه، بدأ مشوار زمالة الدكتور محمد بن ابراهيم النعيم، رحمه الله، أصبح بعد سنوات رئيسا للقسم، عرفته أكثر، كان قريبا من زملائه وبتواضع جم، كانت فترة رئاسته للقسم ناجحة بكل المقاييس، خدم القسم والزملاء والطلاب والعلم، بتواضع يسأل ويستفسر، يناقش بهدوء، هذا التصرف أعطى انطباعا ممتازا، لشخصية عالية الرؤية، منحنا أهمية وشأنا ومقدارا، سألني مرة عن موضوع،، قلت: بماذا تفكر أنت؟! كانت إجابة مدهشة، استنتجت أنه يسأل تقديرا واحتراما، انطباعات كثيرة، تجعلني دائم الدعاء له بالرحمة والمغفرة.
لم أسمعه يوما يتحدث عن نفسه، وعن إنجازاته، وعن علاقاته الجيدة بالآخرين، تواضع زاد من قيمته بيننا كزملاء، لم أره يوما غاضبا، أو منفعلا، أو يائسا، أو ناقما، أو كارها، أو ساخطا من أي شيء، كان شخصية فريدة، تساءلت يوما كيف نشأت وتربت هذه الشخصية؟! سألت أحد الزملاء، شرح لي الكثير، طفولة كانت في لبنان، حيث أنهى تعليمه العام في مدرسة داخلية.
كنت أمام شخصية تحمل الكثير من الصفات الشهمة والنبيلة، مزيج نادر ولامع، عالم اقتصاد، عالم دين، مؤلف وباحث، أحد الأيام قدم لي بكل تواضع أحد كتبه، مضى في طريقه، تصفحت الكتاب، لحقت به أحمل الكثير من التساؤلات، عرفت أن وقته أيضا ليس ملكه، بجانب التدريس في الجامعة، كان يدرس القرآن والتجويد في مسجده، رجل عملي، منضبط، ملتزم، دقيق الملاحظة، محب للإنجاز والخير، لم أره في مكتبه إلا يقرأ ويكتب ويحلل، أتعجب من كثرة زيارة الطلاب له في المكتب، يعامل بلطف، ينصح ويرشد، يدافع ويحمي ويوجه، كان حريصا رحمه الله أيضا على الطالبات في القسم، نجد اهتماما وغيرة عالية الفهم والإدراك على مستقبلهن.
كان رحمه الله إذا وصل إلى طريق مسدود في أي قضية تهم القسم وطلابه، ينسل إلى إدارة الجامعة دون علمنا، يعود ليطلعنا بما جرى من نقاش، وما تم انجازه لصالح الطلاب والطالبات، رحم الله الدكتور محمد النعيم، الأخ، الزميل، الأب، المسؤول، العالم القدير، الشخصية الفاضلة المفعمة بالوقار وخدمة الناس، كان يتمتع بروح المبادرة، والتحفيز، كان صادقا في حديثه، لا يحمل في قلبه كرها لأحد، صادق النيّة، صافي السريرة، هكذا عرفناه في الكلية، الكل يحترمه ويقدره، عندما يحضر اسمه, الكل يثني على أخلاقة وشخصيته بخصائصها الفاضلة النّادرة.
طوال هذه المسيرة مع سعادته، لم يتطرق معي إلى حياته الخاصة، إلا مرتين، بعد النقاش وجدت الموضوع يخص آخرين، كان يرى وضعهم مسؤوليته، رحمه الله، في المرّة الأخرى تحدث عن موقف كان يحتاج إلى قرار حازم، تعجبت من قراره، تحمل النتائج وترك الأمر لله، كنت أتساءل عن سر هذه الطيبة وهذا التسامح، كأنه يقول: اللهم اجعلني مظلوما ولا تجعلني ظالما.
** قبل وفاته تم تكليفه مرة أخرى برئاسة القسم، فرحنا بهذا القرار، لم نفرح طويلا، داهمه المرض، نسأل ولا نجد إجابة، كان يحضر يوميا وهو يتألم، ملتزما بمسؤولياته، في آخر مرة رأيته فيها، كان في المستشفى، وجدت عددا كبيرا من محبيه حوله، هالني ذلك التقدير منه لشخصي، وهذا ليس بمستغرب من أبناء الاحساء، وكما عرفتهم، أجلسني بجانبه، وقتها شرح لي القصة كامله، والكل يستمع.
كان يحمل جرحا نفسيا مؤلما، عميق القسوة، نتاج سوء تشخيص المستشفى لمرضه، كان يعاني، أحيل إلى هذا المستشفى قبل ثلاث سنوات، أخذ يراجع بشكل منتظم، قبل موته عرف أنه السرطان، كان يتساءل: (استشاريين)، لماذا لم يكتشفوه خلال هذه السنين؟!
الوداع الأخير كان بالمستشفى، خرجت، تركته مع معاناته على السرير الأبيض، ورّثني ألم تساؤله وحزنه على نفسه، غادر إلى الأردن بحثا عن الأمل، اتصلت تلفونيا، تشبعت من نبرات الصوت حزنا وأسى، عاودت الاتصال بعد يوم، لم يرد، بحثت عن تلفون ابنه عمر، اتصلت، أيضا لم يرد، لا يفضلون نقل ما يكدر خواطرنا، هكذا فهمت، حتى كان يوم الثلاثاء الماضي، جاء من ينادي، الدعاء للدكتور محمد النعيم بالرحمة، عاش معطاء، مات متسائلا، بقيت أحمل جرحه، وسأظل، الموت مرارة نتجرعها، لكن الأكثر مرارة وقسوة عندما يكون الموت نتاج فشل الإمكانيات، للفقيد الرحمة، لذويه وأهل بيته، ومحبيه، خالص العزاء.
* أكاديمي-جامعة الملك فيصل