اعتمدت الحركات والمؤسسات الإسلامية عموما، على اختلاف توجهاتها وتباينها، على الحضور المثقل للشخصيات والكاريزمات، بل يظهر أن الكاريزما هي إحدى العناصر الرئيسية المكونة لأي تيار أو حزب أو مؤسسة إسلامية، فلو استحضرنا مثلا مدرسة الاعتصام وبعدها المنار برجالها الثلاثة (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا)، ومن بعد ذلك مؤسسة الأزهر، نجد أنها تعتمد بشكل رئيسي على رجالاتها وثقة الناس بهم.
وأيضا لو أخذنا مثال حركة الإخوان المسلمين ابتداء بحسن البنا، والثورة الإيرانية ابتداء بالخميني، ولو أخذنا الحركات أو الأجنحة الجهادية كحركة المقاومة الإسلامية حماس ابتداء بأحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي وحاليا خالد مشعل وإسماعيل هنية، وحركة الجهاد الإسلامي مع فتحي الشقاقي. وغيرهم من الأسماء التي ترث بعضها والتي تتعمد الحركة إظهارها وإبرازها، وتعتمد في رأس مالها الرمزي عليها. سنجد أن هذا الأسلوب يميز جميع هذه الحركات والتنظيمات والمؤسسات.
هناك اعتماد كبير على الرموز والكاريزمات، بل إن أحد أهم مؤشرات ضعف اتجاه أو حركة ما هو ضعفها في إنتاج الكاريزمات.. وهذا واضح في تاريخ أي حركة أو توجه، بل حتى حين تصل حركة ما إلى مقاليد الحكم كحزب العدالة والتنمية في تركيا، أو حزب النهضة في تونس، نجد أن شخصية رجب طيب أردوغان حاضرة بقوة، كما أن شخصية راشد الغنوشي حاضرة كذلك، الأول بوصفه قائدا سياسيا والثاني بوصفه أبا روحيا للحركة.
ولا تختلف القاعدة عن كل ما سبق في هذا الجانب وإن اختلفت جذريا معها في تصوراتها وسياساتها على الأرض. فابتداء بأسامة بن لادن الذي أسس التنظيم وكان الاعتماد على شخصيته وقبولها عند أتباعه، إلى شخصية أبي مصعب الزرقاوي الذي كان يُسمّى بأمير الذباحين، إلى عدد ليس بالقليل من الأسماء التي كان يحرص التنظيم على إبرازها.
لكن مع إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام، وظهور جيل جديد من القاعدة، يبدو أن هناك أمورا ما زالت جديرة بالملاحظة، يختلف فيها التنظيم عن كل الحركات السابقة. يبدو منها ما يرجع إلى شخصية أبي بكر البغدادي نفسه لأنها لم تكن موجودة عند من سبقه، ومنها ما يرجع إلى الجيل الحالي في قيادة التنظيم.
أبرز الملاحظات هو بعد التنظيم عن إظهار الشخصيات، ففي تنظيم القاعدة في أفغانستان كنا نعرف الرجل الأول والثاني، وكنا نعرف عددا من القيادات الشرعية، كما كنا نعرف أسماء كثير من المسؤولين بالتنظيم. مع أننا نتكلم عن القاعدة التي تصف نفسها بالتنظيم وليس بالدولة. والتي تعتمد على اللا مركزية في إدارة شؤونها. أما في حالة تنظيم الدولة فنحن أمام مفارقة غريبة، حيث يصف التنظيم نفسه بأنه (دولة)، بل إن المتحدث الرسمي باسمها أبا محمد العدناني قال في تسجيل له إن تنظيم القاعدة انتهى من العراق بلا رجعة. فالآن هم في طور الدولة. والمفترض أن يعني هذا مزيدا من العلنية. أن نرى وزيرا للإعلام مثلا ونرى علماء ومنظرين وكتّابا وصحفيين.. كما فعلت أو تحاول أن تفعل جماعة الحوثي بعد الانقلاب في صنعاء.
ما يظهر في تنظيم الدولة أنه لا وجود للشخصيات ولا حضور مثقل لها، ولو أن البغدادي كان يطل علينا بين الحين والآخر بصورته وكلماته لقلنا إنه نزوع نحو التفرد والاستبداد، لكنه حتى هو أيضا مقل جدا في الظهور. مما يجعلنا نفسر ذلك بميله نحو السرية رغم إعلان قيام الدولة. إضافة إلى تخلي التنظيم عن فكرة الكاريزمات والشخصيات الملهمة والمؤثرة. بحيث لا يصبح في الأذهان سوى التنظيم، والتنظيم وحده. أو الدولة وحدها حسب طموحهم.
من الواضح كما يقول بعض المراقبين إن شخصية البغدادي مليئة بالحذر والريبة، فهو يميل إلى السرية المبالغ فيها، لكنه مع ذلك يستخدم أسلوب الرعب الإعلامي، وهي مفارقة أخرى. فكما أنه يعتمد على التقنية المتقنة في تسجيل ذبح الرهائن.. لكنك مع ذلك لا تجد أية معلومات عن التنظيم في هذه المقاطع.. المعلومات قليلة وشحيحة جدا. هو يكتفي بإيصال رسائل الرعب لدعم القوة العسكرية في الميدان.
* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الملك فهد