كنت في مطار دبي الذي يجري العمل فيه على قدم وساق للتوسع ولا أنكر أني ضقت ذرعاً بتلك التحويلات الداخلية ، والحواجز التي تواجهنا في الصالات لتمنع عنا رؤية ما يدور خلفها من أعمال .
أثناء المسير رأيت على أحد الجدران عبارة تقول : نأسف لإزعاجك نحن نبني خلف هذا الجدار مطاراً سيكون الأول على مستوى العالم . هذه العبارة كانت كفيلة بزرع الابتسامة على شفتي وكان تأثيرها كتأثير شخص يتحدث إلي معتذراً عن خطأ ما ، فأقبل عذره وأتفهم موقفه فتهدأ نفسي .
وهنا يكمن سر تأثير الكلمات علينا في أي وقت ، وفي أي مكان ، وأيضاً يظهر لنا منها أهمية القدرة على انتقاء العبارات المناسبة التي تترك فيمن يقرأها أو يسمعها تأثيراً حسناً يحقق الهدف سواء على الحواجز للاعتذار ، أو للإعلان ، أو للتعبير عن فكرة ما ، أو للتوجيه والوعظ والإرشاد . وهنا أتذكر بعض اللوحات التي كانت تعلق على بعض أعمدة الإنارة لتنبيه الناس وتذكيرهم بالصلاة كانت العبارة تقول : الصلاة أو النار !! حتى الله - عز وجل - وهو الذي يعاقب ويثيب لم يجمع بين الأمر والعقاب بهذه الطريقة، وقد اطلعت على الآيات التى ذكرت فيها الصلاة وعددها اثنتان وستون آية فلم أجد غير اللطف والتلطف في الدعوة إليها والترغيب لا الترهيب ، ولكن الحماس البشري في كثير من الأحيان يضر ولا ينفع وبخاصة في مثل هذه المسائل .
إن العبرة ليست بعدد الكلمات فحسب، بل بوفرة العواطف التي تجعل من كل موعظة أو إعلان أو اعتذار مادة مؤثرة ومصيبة للهدف . فحتى تلك الكلمات التي تكتب على الجدران نجد فيها أحياناً ما هو مفيد ومسل لأنها تعبر عن شعور ما . مثل تلك الكلمات الموجزة هي الأبلغ تأثيراً في الغالب ، وهي التي تمثل - وبقوة - مفهوم ( خير الكلام ما قل ودل ) وهي الأكثر بقاء والأطول عمراً في الذاكرة .
فقد يلقي أحدهم خطبة من مئات الكلمات ولا يتبقى منها سوى أربع أو خمس هي زبدة الموضوع .
إن كثيرا منا يناقض هذا المفهوم وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالتحدث أمام الآخرين مشافهة، إذ يعتقد بعضنا أنه كلما أطال في كلامه كان أكثر إجادة في إيصال ما يريد وهذا حال كثير من الإعلاميين الذين يسألون ضيوفهم أسئلة طويلة تتفوق في عدد كلماتها حتى على الإجابة المنتظرة .
وهذا حال الناس اليوم مع مواقع التواصل الاجتماعي فبعضهم يعيد ويزيد فيما يكتب وينشر طوال الوقت حتى اننا نتساءل: هل تفرغ بعضهم لتويتر ؟ ألا يعملون ويأكلون ويشربون وينامون؟ والغريب في الأمر أن من حسنات تويتر أنه يعلم الناس فضيلة الإيجاز في القول ومع هذا نجدهم يكتبون مطولات يصعب حتى تعدادها. وليتها كتبت فيما يستفاد منه كما هو حال بعض الشخصيات ذات الأثر الفاعل البناء والهدف الواضح ، لكن - للأسف - هي مجرد ثرثرة فارغة جداً يلهث من تظهر منهم للتواجد في كل وسم يشار إليه بغض النظر عن الموضوع . أو الكتابة عن خبر ما وكأنه وكالة الانباء التي ينتظر منها الناس الخبر اليقين رغم رؤيته لمئات من كتابات من سبقوه إلى الخبر نفسه ، ثم يحرص على نقل تغريداته للواتس اب في كل مجموعة يشارك فيها وأيضاً لا يكتفي فيرسلها خاصة لكل قائمة الأسماء التي يحتفظ بها في هاتفه، حتى صار الكلام مادة سريعة الانتشار وسريعة الاشتعال وصار الكلام من فوقنا ومن تحتنا وعن جوانبنا . فمللنا هذا المد الكلامي العجيب حتى أن بعضاً صار يكتب التغريدة ثم يمحوها حتى لا يكون عبئاً على الآخرين وحتى لا يكرر ما يقال حوله من مدح لفلان أو هجوم على علان .
لقد كان الإيجاز في القول من محاسن الكلام التي تحمد لصاحبها ففيه من البلاغة ما فيه ومع ذلك يتراجع كثير من الناس عنه حرصاً على الشهرة وحب الظهور . والحقيقة أن الذين وقعوا في هذا الفخ هم كثر جدا ومنهم بعض الأسماء ذات الشهرة التي خدعت نفسها بنفسها وصارت إن لم تكتب فستظل تعيد إرسال كل ما يقال لها من مدح أو قدح في الوقت الذي يفترض بهم أن يرشدوا ولا يثرثروا ولكن ماذا نفعل إذا كانوا حتى هم يسعون لاحتلال درجة ما في مقاييس التأثير !! وأي تأثير ؟!
* عضو هيئة التدريس بجامعة الدمام