لا أحد يجادل في أن استحالة قيام شخص توفي بأعمال الأحياء، فمع أن الجسد قد يبدو سليماً مكتمل الأطراف لكن غياب الروح جعلت منه مجرد جثة هامدة، لا تقوى على شيء، هذا الحال ينطبق على كثير من المنظمات الحكومية والأهلية التي لديها موارد كبيرة، لكنها تفتقد للروح وما أكثرها.
ويكفي النظر إلى كثير من الجهات الحكومية الخدمية عن قرب، فهي تمتلك بلا شك أنظمة -وإن تفاوتت من حيث الفاعلية والتطبيق- والأشخاص المؤهلين - وإن ضعفت دوافعهم للعمل والانتماء إليه-، لكن ذلك الجسد لم يستيقظ مع مرور الزمن، وظل مترهلاً؛ لأسباب أدت إلى ما يشبه الوفاة.
أسباب ذلك كثيرة، من بينها: الفساد الإداري، وأقصد الواسطة وأخواتها، وغياب الحوافز المرتبطة مباشرةً بالعمل، وعدم وضوح المهام والمسئوليات، وغياب رقابة العميل، وأقصد عدم وجود تقييم للأداء يعتمد على آراء العميل، وما يعرف برجع الصدى، فكثير من الجهات الخدمية لا تمتلك إدارات حقيقية لخدمة العملاء ولا تقوم بأي بحوث علمية لتطوير جودة الأداء.
وبالرغم من أن تلك الأسباب وحدها قادرة على هدم أي كيان خدمي عام أو خاص، وخاصة إذا تحولت تلك السلوكيات مع الوقت إلى ثقافة، وهنا تحدث الوفاة المهنية، إلا أن الأكثر تأثيراً وأهم الأسباب من وجهة نظري، والذي لربما كان النواة التي بدأت منها كرة الجليد، تلك هي غياب الهوية، والذي كان بمثابة الإنذار لمبكر عن قرب الوفاة.
صناعة الهوية ووضعها في موضع حجر الزاوية، مهمة معقدة، لكن لا غنى عنها في أي دولة أو منظمة أو كيان، وحتى على مستوى الأفراد، لكن هذا المفهوم يشوبه غموض كبير في العالم العربي كغيره من المفاهيم الجوهرية التي تدير الحياة في الغرب والشرق؛ لأنها تُفهم وتُطبق عن طريقة (الفهلوة) إن صح التعبير.
في أوساط الأعمال التي تتقدم كثيراً في هذا المجال عن المنظمات الحكومية بدافع من الأسواق والمنافسة، ينتشر مصطلح الهوية؛ للتعبير إما عن الشعار المصور أو (LOGO) أو العلامة التجارية (Trademark) وأحياناً يستخدم للتعبير عن الشعار المكتوب (Inscription) والذي يمكن وصفه في أبسط الصور بأنه جملة تعبيرية مقتبسة من الرؤية أو الرسالة المنظمة أو كلاهما.
وتتقدم بعض الجهات في إتجاه تفسير ذلك بأنه مجموعة الكلمات والصور والأدوات التي تظهر المنظمة للرأي العام، وتشمل كل ما سبق وتتبع في هذا النهج، وإن وجدت محاولات قليلة في العالم العربي لأخذ التصميم في إطار استراتيجي يعتمد على منح المجال للتهيئة النظرية، باستخدام ما يرفره النماذج الإستراتيجية في المنظمة: كالرؤية، المهمة، الهدف، والخطة الإستراتيجية -إن وُجدت بالطبع-.
كل ما سبق لا يعدو كونه وسائل للتعبير عن الهوية، لكن أين هي الهوية، من السهل أن نرى الجسد والأعضاء، ويمكن لمس آثار الروح، لكن السؤال الصعب، أين هي الروح المحركة لهذا الجسد، المتحكمة بالأعضاء والتي أحدثت الفارق الكبير بين الحي والميت؟! ثم إن الاعتماد على ما توفره الإدارة نظرياً، قد يكون خطيراً؛ لأنه قد لا يعبر عن حقيقة المنظمة، ولا يمكن أن يقدم أي محرك لها، والأسوأ من ذلك حينما تقوم الوكالة أو الجهة الاستشارية أو إدارة العلاقات العامة بتصميم كل من الإطار النظرية والهوية، وكأنها وجبة معلبة.
التطبيق العملي على أرض الواقع في مجتمع الأعمال، وقبل ذلك في القطاع العام، إلا ما رحم ربي؛ لا ينتقل خطوة إلى الأمام عما ذكرت، والسبب: أن الهوية لا تشبه العوامل الراكدة الأخرى، فهي عامل حيوي، بينما أطر المنظمة رؤيتها ورسالتها وأهدافها الإستراتيجية المعلنة، وسياسات وأنظمة العمل، وأساليب الرقابة والحوافز إلخ...، كلها وسائل لا بد وأن تعبر بشكل أو بآخر عن الهوية، بتنسيق عال جداً قبل أن يعبر عنها الشعارات أو البروفايل (profile).
الإطفاء في بريطانيا على سبيل المثال، منظمة فعالة تعمل بطريقة تفوق كثيرا الشركات الكبرى في قطاع الأعمال في الدول العربية، فهي تتمتع بإطار إداري استراتيجي رفيع، ولهذا فإنك تشعر بروح خلف الشعار الذي تحمله السيارات، وهو السرعة (Fast)، وينطلق من كل حرف في هذه الكلمة للتعبير بجملة تمثل الرؤية والرسالة.
تنظيم العمل وتوزيع المهام وتحليل بيانات الإتصال وتقييم العمل والأخطاء ومعاقبة المقصرين، وتفعيل الحوافز، لا يختلف كثيراً عن الشركات الناجحة في مختلف أنحاء العالم، كل ذلك صنع هوية ذات دافعية قوية، وهو ما يجعلك تستشعرها في قوام رجال الإطفاء، وحرصهم على العمل، اعتزازهم به وتقدير الآخرين للمهام الجليلة التي يقوم بها أصحاب هذه المهنة. محلياً، تجربة شركة الزيت السعودية (آرامكو) تستحق الثناء، هذه الروح فقط القادرة على خلق مناخ مريح واحترافي للعمل في آن واحد، ويحظى بتقدير المجتمع.