عندما التحقت بالسادس بالمدرسة الأميرية، التي أسسها الشيخ محمد النحاس أخذت أتعرف على زملائي وأراقب سلوكياتهم نحوي فمن هو الصديق الذي يمكن أن أتقرب إليه وأضمه إلى صحبتي، وأما من رأيت منه صدوداً وعدم اهتمام فلا أتقرب إليه إلا بما تمليه ظروف الدراسة التي جمعتنا في هذا الصف، مع أن العدد لم يزد عن 16 طالباً، فمنذ أول يوم أحسست أن هناك زميلاً يريد أن يتقرب مني ويعرف الظروف التي جعلتني أدخل المدرسة الأميرية، فصرنا نتبادل التحية ثم الأخبار ثم التعريف بمكوناتنا (الأسرة والأهل)، فقدم لي نفسه أنا راشد بن حسن الدرهم وأخي الأكبر علي والصغير محمد جاء جدنا علي من قطر واستقر بالأحساء، ووالدي يعمل في التجارات البسيطة، وأنا كما ترى أمامك راشد حسن الدرهم درست جميع فصول الدراسة في الأحساء التي قيل لوالدي إنها بلد الخير، وسمع عنها الكثير مما رغَّبه في الحضور إليها واتخاذها مقراً له ولأبنائه، حيث تتاح لهم فرص التعليم التي لم يجدوا لها أثراً خارج هذه المنظومة التي أنعم الله بها على هذه البلاد.
لقد سرني بحديثه وانطلقت معه في تبادل الأحاديث فقلت له: إن والدي ووالده من تراب هذه الأرض الطيبة ولم أر بلاداً غيرها، ووالدي يعمل في تجارة التمور، سألني سؤالاً لم أجرؤ على طرحه عليه إذ قال: وأمك من أين؟ قلت أمي من البادية ولا أعرف أي تفاصيل عن قصة زواج والدي بأمي.
إن تلك المحادثات البسيطة أوجدت بيننا رابطة حميمة لا يقصد منها أي كسب مادي وإنما الصداقة؛ لأن كل منا في تلك السن يود أن يكون له صديق أو أكثر يفضي إليه بمكونات نفسه، فصار بيننا نوع من التجاذب الأخوي، فسألني عن سكني فقلت: أنا من المبرز، فاستغرب وسأل من المبرز وتأتي لتلتحق بهذه المدرسة بالهفوف؟ قلت: نعم. فقال: كيف تحضر وتنصرف؟ قلت: بواسطة سيارة الأجرة. فعاد للسؤال: وكيف تتدبر طعام الغداء؟ قلت: إن والدي تفاهم مع مدير مطعم بن غيثان -وكان أكبر مطعم في ذلك الوقت- ليقدم لي طعام الغداء ويحاسب والدي في نهاية كل شهر. قال: وأين هذا المطعم؟ فقلت له: إنه مقابل للدروازة (دروازة الخميس) قرب موقف سيارات الأجرة، فأصر على أن أترك المطعم وأن أتناول الطعام معه ومع والده وأخواته. فقلت له لمرة واحدة؛ لأني لا أحب أن أكون ضيفاً ثقيلاً، فذهبت معه إلى منزله وعند دخولي فوجئت برجل يمسك بيدي وسلم علي فعرفت أنه والد الزميل راشد، وأصر على أن أحضر مع راشد يومياً وكان رجلاً بشوشاً حبيباً فقلت: إن والدي لا يرضى لي أن أتضيف عند أحد بشكل دائم، لكن بين حين وآخر فلا بأس، فكنا صديقين بعد التخرج، حيث أُلحقنا مع غالب طلاب الصف السادس الذين شجعهم الشيخ عبد العزيز التركي على العمل كمعلمين، فكان نصيب راشد العمل في الأحساء وكان نصيبي في الدمام، فاستمرت هذه العلاقة حتى الآن، وأنا احفظ لذلك الزميل العزيز كل حب وتقدير.
وعندما كنت أزور بعض اقاربي في قطر كنت لا استريح حتى أتصل براشد الذي لا يتردد في الحضور إلى مقر سكني ويأخذني في سيارته في جولات حتى إذا رأى أنني متعب أعادني إلى الفندق، ولا يتركني حتى أعطيه الوعد بحضور المأدبة التي تقام على شرفي، ويقدر ما كنت أبديه من تمنع كان يقابله بإصرار علي للقيام بما يراه هو واجبا. فحفظت له هذه الصداقة الحميمة حتى دعوته لحضور زواج ابني منذر، فاستجاب بسرور وعن طيب خاطر، ولذلك لم استغرب عندما رأيته مع المدعوين ثم يتقدم للسلام علي ومباركة ابني بالزواج وأنا أقول: هداك الله، كان يكفي أن تنيب الهاتف لإيصال ما تحسه نحوي من ود، فقال: ثم ماذا وهو يضحك. قلت: لا شيء إلا أن تتناول الغداء معي غداً. قال: لا أستطيع وسأعود هذه الليلة إلى قطر، ورغم كل التوسلات فقد أصر على العودة إلى مقر عمله بوزارة التعليم القطرية، وينام بين أولاده وبناته. ولا يفوتني أن انوه أنني عندما زرته سررت بما رأيته، حيث أولاده وإخوانه الأقل سناً قد تخرجوا أطباء ومهندسين وإداريين، وكلهم يدعون بسلامة عميد الأسرة -راشد- وأنا معهم أدعو له بكل خير في الدنيا والآخرة، فهو إنسان كريم هادئ الطبع جليل القدر، وفقه الله ورعاه.