كان قد مضى على وجودي في العاصمة الليبية طرابلس أكثر من الشهر بقليل، وكان مقر الإقامة في فندق مواجه لميناء طرابلس، وبين بوابة الميناء وبوابة الفندق الرئيسية كان يقع مسجد تاريخي صغير يشكل تحفة معمارية على الشاطئ، يسمى مسجد "سيدي الشعاب"، وفي احد صباحات أواخر أغسطس ٢٠١٢م استفاقت العاصمة وكل سكان فندق المهاري على منظر مروع، تفاصيله العامة جنود ومسلحون ينتشرون في شكل دائري يحيط بالمسجد، ويمنعون الناس من الاقتراب، في الوقت الذي أخذت جرافة عملاقة في هدم المسجد بشكل منتظم وسط صيحات وتكبيرات وطلقات رصاص من هنا وهناك، ومضت الساعات من قبل الفجر إلى حدود العاشرة صباحا من ذلك النهار، وكان البناء قد سُوّي تقريبا بالأرض وأزيلت كل مظاهره. المؤلم أن المصادر التاريخية تذكر أن الشيخ عبدالله الشعاب المدفون بالقرب من المسجد يعد من احد مشايخ وأعلام ليبيا في القرن الثالث عشر الهجري، وانه كان من المتمسكين بسيرة السلف الصالح وعرف عنه زهده وتصوفه، وتوفي في طرابلس سنة ٢٤٣هجرية، الحكومة الليبية وقتها كانت برئاسة الدكتور عمر الكيب أدانت ذلك العمل واعتبرته تعديا على التاريخ والثقافة والآثار والتراث في ليبيا، وأكدت أن من قام بذلك جهات غير مسئولة، رئيس المؤتمر الوطني العام آنذاك الدكتور محمد يوسف المقريف استنكر ما حدث، وكانت له إشارة لافتة ومهمة لم تغب عن فطنة بعض المراقبين، حيث ذكر الرجل في معرض تعليقه أن بعض من نفذوا عملية الهدم والإزالة يفترض أنهم من الثوار، ومن قوات الأمن. حديث السيد المقريف أكد للبعض صحة مقولة: إن الدولة بحضورها العام وسلطانها المفترض بدأت تتآكل تدريجيا في ليبيا مع بزوغ ثورة السابع عشر من فبراير، إضافة إلى أن عملية التآكل تلك كانت مصحوبة ببروز تصاعدي لسلطة الميليشيات المسلحة التي استغلت ما يمكن وصفه بحالة الفراغ في السلطة في عموم البلاد الليبية بعد سقوط نظام العقيد القذافي، بدون وجود بديل جاهز وقادر على ملء ذلك الفراغ. كانت تلك إشارات خطيرة على مستقبل الناس والبلاد، ومع ذلك كان الجميع يأمل أن تستقر الأمور وتتعافى الدولة وتهدأ الأحوال، إلا أن ذلك بقي في محيط الأمنيات، وراحت البلاد تتعرض للأخطار بشكل متصاعد، وطال الشرر كل شيء على التراب الليبي تقريبا، بما في ذلك الذخيرة الهائلة من الموروث الثقافي والإنساني الذي ينتشر في مناطق الغرب والشرق، والمُكون من آثار الحضارات الإغريقية والفرعونية والرومانية، استعرض هذه الذكريات والحقائق على خلفية الأخبار المفزعة عن ما حل مؤخرا بتمثال يجسد شخصية الشهيد الليبي عمر المختار، وهو يمتطي صهوة جواده. التمثال كان احد معالم منطقة الماية الواقعة إلى الغرب من العاصمة. وبعد ذلك بفترة وجيزة أعلن في طرابلس عن اختفاء تمثال اثري من احد الميادين العامة، وسط العاصمة التمثال عبارة عن سيدة تحمل جرة ماء وتعانق غزالة، لذا سمي الميدان بميدان الغزالة، وهو في موقع متوسط في العاصمة وفي منطقة تكثر فيها الحركة معظم أوقات النهار، وتقف بجواره حافلات النقل العام ولكون التمثال محاطا بنافورة، فغالبا ما تكون المنطقة المحيطة به مقصدا للناس للسير والاستمتاع بأجواء أكثر برودة، الأهم من ذلك أن التمثال يعد اثرا تاريخيا بارزا، حيث أنجزه فنان ايطالي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين في زمن الاحتلال الايطالي. والغريب أن التمثال تعرض خلال شهر سبتمبر الماضي إلى قذيفة اخترقت جسم السيدة التي تحمل الجرة، وعبر صور تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي للميدان بعد إزالة التمثال بدا منظر الشارع بكامله أكثر كآبة وجمودا، ومن الآراء التي رددها الناس هناك أن من يقف وراء كل ذلك جهات مجهولة ربما لجأت إلى محو كل هذا التاريخ بسبب ملامح جسد الحسناء!.
ويدور نقاش بين المهتمين من أهل ليبيا عن المسئول عن ما يحدث لهذه الآثار المهمة، ويرجح البعض مسئولية جماعة فجر ليبيا بشكل مباشر عما يحدث؛ لأنها تسيطر على معظم مناطق المنطقة الغربية منذ أشهر بشكل شبه كامل، ويخبرنا التاريخ أن واحدة من أهم نتائج غياب الدولة وظهور الفراغ في خانة السلطة، بروز الصراع بين الطامحين إلى مواقع الحكم، وأن الحرب الأهلية الشاملة من أسوا أنواع الصراعات؛ لأنها تذهب بالإنسان والتاريخ والثقافة.