كان من الصعب على البعض فهم حجم التداخل والتمازج التاريخي بين شعب الخليج العربي وأقاليمه منذ التاريخ القديم للفينيقيين وعند بعثة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وما تبعها، وكنت أشرح لمن يسأل بأن الأمر بسهولة هو بيت واحد لا أقول قامت بينه أسوار لكراهية اللفظ، ولكن قامت في داخله غُرف وجُدر وبقيت جذور الارتباط قديمة في هذا الساحل البحري وعمقه المرتبط به في صحراء نجد ومنها بادية وحاضرة، ولذلك تتداخل أسر الحاضرة والبادية في كل أركانه. وقمة الرياض التي حسمت البعد المعنوي بقيادة خادم الحرمين الشريفين بعد التواصل الذي جرى مؤخراً قبل القمة وتنفست الشعوب الخليجية بعده الصعداء عَبْرَ إعلان المصالحة أو بداية تسييرها تم من خلال هذه العلاقة، أي علاقة أصحاب البيت لا شركاء المجلس السياسي الذي اهتز كثيراً بالحدث وأعلن أعضاؤه اليوم عزمهم في أجواء المصالحة على ترميمه، أمام عواصف تُشعِل المنطقة من جديد قد يُرى أولها ولكن لا يُعرف آخرها. وما أعقب المصالحة من استقرار متدرج يأمل الجميع أن ينتهي لمصالحة شاملة تتجنب سلبيات المرحلة الماضية وتتجنب الوصول الى مرحلة من التصعيد، شعر الجميع بأنها رفعت سقف الخلاف وأزّمَت الحالة بصورة خطيرة. وبدا واضحاً أن التواصل الثنائي المعلن وغير المعلن قد شكّل حراكاً حيوياً بين الدوحة والرياض والذي تحوّلت بعده المملكة لدور الوسيط الراعي المناسب لمكانتها، ووضعت بصمات مهمة لنزع الفتيل وعزّز ذلك بوساطة الشيخ صباح الأحمد. ومهما بلغت الخلافات فإن المصير المشترك للخليج ومصالحه وجذور تاريخه يحمل أكبر مما يحمله العهد الأوروبي القديم من صراعات، تجاوزوها وعقدوا مصالحهم فكيف بنا على مستوى الخليج ثنائياً وجماعياً، سيحتاج الأمر بكل تأكيد الى دفع شامل لتعزيز تماسك المجلس الذي يستبق أي حديث عن اتحاد، ولكن لئِن تسير الأمور ببطء وقناعة لكل الأطراف وتُنظّم مساحات الاختلاف واحترام حق كل دولة في مسار رؤيتها، فهذا أفضل من خطوات سريعة لا تضمن الاستقرار المستمر أو الثابت. ولأنّ أحد مصادر التسوية ما يجري في المنطقة ومستقبل حرب داعش الأمريكية، فإن استشراف هذا المستقبل صعب جداً في ظل تجارب لحروب خاضتها الولايات المتحدة الامريكية شراكة مع إيران أو مستقلة، وانتهت الى واقع أفرز أبعاد توتر جديدة في المشرق والخليج العربي تحديداً. وهي مساحات توتّر تستدعي الكثير من التنسيق وتوحيد الجهود وفقاً لقناعات مشتركة تحقق تقاطع لمصالحها لا لمصالح واشنطن وطهران حتى لا نشهد مجدداً مقولة الأمير سعود الفيصل الشهيرة:
لقد قدمت واشنطن العراق على طبقٍ من فضّة لإيران.
وفي توقيت مكلف للغاية لدول المنطقة ومصالحها بل وأمنها الحدودي والوجودي، وعليه فإن مساحات الاختلاف في مناطق أخرى أمر طبيعي للغاية ويجري بين الدول الحلفاء ولا يمنعهم من إبقاء مصالحهم المشتركة قائمة، وهو ما يؤكد على ضرورات حماية البيت الخليجي من أي صدمات كبرى تُسقط ما تبقى من ممانعة. ومع أنّ المثقف العربي في الخليج محبط، إلّا أنّ هذا المثقف اكتشف كم هو خطير حجم الصراع والأزمة، ولذلك اشتركت كل تياراته باستثناء بعض ذوي النزعات الخاصة لظروف معينة، في الرغبة العاجلة في اقفال هذا الملف والعودة الى سياق التنسيق والتواصل بالحد الأدنى المقبول.
وهو ما نتمنّى وندعو له في ظل أجواء متصاعدة تزحف من اليمن الى العراق وسوريا الذبيحتين بيد النظام الطائفي في كل منهما، وبيد داعش ومن يقصف لمحاربتها اليوم عبر التوافق الأمريكي الايراني وهو يحمل أهدافاً أخرى. كل ذلك يؤكد من جديد على الرؤية العقلية السياسية التي يحتاجها المجلس بالبحث عن المصالح المشتركة للبناء عليها ومعالجة الخلافات بهدوء استراتيجي.