ما زِلتُ لدي قناعة بالمقولة المنسوبة إلى الإمام علي - رضي الله عنه - «ما كل ما يعرف يقال» فأنت لا تستطيع أن تقول كل شيء في كل الوقت، بل قبل هذا كان النبي الأكرم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يخاطب الناس على قدر عقولهم، فعقول البشر ومساحة استيعابها ليست واحدة، إضافة الى ان هناك مقولات لو قيلت في غير ظرفها ووقتها ربما أدت ليس إلى عكس مرادها، بل قد تخلق "فتنة" وتأزما في ما كان يراد الإصلاح فيه، فمسؤولية الكلمة والقول ليست مسؤولية سهلة وبسيطة كما قد يتصورها البعض ويستسهلها مرددا مع القائل: "قل كلمتك وامش"، فيا ليت حدود بعض الكلمات حدود القول والسير بعد ذلك، لكان الأمر يهون، ولكن بعض الكلمات فعلها أشبه بالزلزال على الأرض لذا تحتاج لمقياس – ريختر – لقياس درجة قوتها ومن ثم معرفة حجم ما تركته من أضرار، وأظن هناك من يتعمد أن تقاس كلماته على هذا المقياس وخصوصا من بعض المثقفين الشباب والصداميين أصحاب التغريدات عالية السقف و"المتفائلة" في غير مكان التفاؤل، ظنا ربما منهم أن مجتمعاتنا التي تعيش سباتا قديما وعميقا بحاجة إلى كلمة بقوة الزلازل حتى توقظها من سباتها، وإن ذكرتهم بأن – لكل مقام مقالا – قالوا لك إن هذه مقولات جامدة تجاوزها الزمن، وإن سألتهم تفكيك صحة ما يقولون، لخرجت منهم "بفلسفة" طويلة وعريضة ليس لها على أرض الواقع مكان.
لست من دعاة الجمود على بعض الكلمات التي بات يتداولها الناس أشبه بالقرآن المنزل الذي لا يأتيه الباطل بين جنبيه ولا ضد التغيير والوقوف خارج الزمن، ولكني من دعاة الموضوعية والعمل على أرض الواقع، فالتغيير في المجتمعات العربية طريقه طويل ومعقد، ولا أظن العلاج بالصدمات الكهربائية أو حتى بالكلمات المزلزلة يمكن أن يحدث تغيرا، ولنا في المجتمعات التي اجتاحتها ثورة ما سمي بالربيع العربي خير دليل على ذلك، فغالبيتها عادت لنقطة الصفر أو محلك سر، فالتفاؤل في التغيير في مجتمعاتنا يجب أن يقف على أرض الواقع، وما نملك من مقومات التغيير الصالحة في مكاننا وزماننا، أي بمعنى آخر يجب أن يكون لنا منهج موضوعي لتغيير يراعي هوية مجتمعاتنا ومكوناتها، أما غير ذلك فربما كان سباحة في مكان وزمان غير مكاننا وزماننا، وهذه حقيقة نعانيها من مثقفي القص والنسخ، وما يملكونه من نظرية غربية، محاولين إسقاطها على واقع المجتمع العربي، دون مراعاة لظرف، وحجتهم في ذلك اللحاق بركب الأمم المتقدمة يتطلب عصفا وقصفا حتى يستيقظ الإنسان العربي. لا أريد أن أجزم بأن الكثير من هذه العبارات الثقيلة الهضم مجتمعيا على الأقل في الحاضر، وإلى المستقبل المنظور لم تؤسس إلى نقطة لتغيير بقدر ما خلقت مثقفا معزولا عن مجتمعه، وأنا هنا أعني المثقف الصدامي وحديثي له بالدرجة الأولى، لأن المثقف الواعي يجب أن ينظر إلى حال مجتمعه، وتكون لغة خطابه مواكبة لهذه الحال، دون أن يكون بالضرورة متماهيا مع هذه الحال الرافض لها، فلقد كان بودلير برغم أنه شاعر حداثي يخشى أن تتجاوز مفردة الحداثة الأدب لاعتقاده أن الشعب الفرنسي لم ينضج لها بعد، وقبله الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي انتهج أسلوبا صارما مع نفسه في نشر أفكاره ومعتقداته مراعاة لظرف مجتمعه، وقد كتب الباحث في الفكر الغربي الحديث هاشم صالح في كتابه – من الحداثة إلى العولمة – يقول: "في عام 1633م، حصلت الإدانة اللاهوتية الشهيرة لغاليليو، لأنه يقول بدوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهذه الإدانة أرعبت ديكارت فامتنع في آخر لحظة عن نشر كتبه. وراح الفيلسوف الفرنسي يمارس الرقابة الذاتية الصارمة على نفسه، إلى درجة أن بعضهم اتهمه بالخور والجبن. لكنهم كانوا مخطئين فالرجل الذي وصفه هيغل بأنه - البطل المقدام للفكر - لم يكن جبانا، ولكنه كان يعرف تماما أن موازين القوى مختلة كليا لغير صالحه أي لغير صالح الفلسفة والعقل، لذلك اتبع سياسة التقية والرقابة الذاتية، وقال كلمته الشهيرة: الفيلسوف يتقدم مقنَّعا على مسرح التاريخ.. بمعنى أنه لا يكشف أوراقه دفعة واحدة".
وهذا في ظني كافٍ لأن يجعل من مثقفنا الصدامي أكثر حكمة وحنكة في عرض أفكاره، فالمثل الصيني يقول: «إذا رميت سهم الحقيقة اغمسه بالعسل».
* إعلامي متخصص بالشأن الثقافي