كان سؤال انعقاد القمة الخليجية في الدوحة في ديسمبر القادم للعديد من المراقبين للشأن الخليجي سؤال المليون دولار. فقد كان موعد القمة يقترب ودول مجلس التعاون الخليجي يسودها حالة من الصمت تجاه مسألة انعقاد القمة ولا يلوح اي مؤشر واضح حول امكانية انعقادها في موعدها من عدمه، حتى جاءت قمة الرياض الاستثنائية التي عقدت يوم الاحد الماضي برئاسة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتذيب جليد الخلاف والتوتر الذي تصاعدت وتيرته خلال الفترة الاخيرة وتنهي الخلاف مع قطر وتفتح صفحة جديدة في العلاقات الخليجية وتأكد انعقاد القمة الخليجية في موعدها في العاصمة القطرية بالدوحة. كانت اللحظات التي سبقت قرار اجتماع الرياض لحظات حاسمة، فبقدر ما كان الانتظار صعبا كان اتخاذ القرار اصعب فكل منا كان يضع يده على قلبه وهو اسير الانتظار. لا اخفي عليكم فبعد قرار اجتماع الرياض بعودة سفراء الدول الثلاث (السعودية، البحرين، الامارات) الى الدوحة وطي صفحة الخلاف، كاد قلبي يتمرد على ضلوع قفصي الصدري ويخرج من مكانه ليعانق الشاشة فرحا بقرار حكيم يحفظ بيتنا الخليجي من التمزق. فمنذ قيام مجلس التعاون اي منذ اكثر من 33 سنة لم تشهد العلاقات الخليجية– الخليجية انعطافة خطيرة كهذه التي مرت عليه، نعم كانت تشهد العلاقات خلافات بين الحين والاخر وهذا امر طبيعي فالخلاف والاختلاف امر طبيعي، الا انه لم يحدث أن وصلت هذه العلاقات إلى هذه الدرجة من التوتر التي شهدتها المرحلة الاخيرة، والتي أدت الى سحب السفراء من قطر، فهذه سابقة لم تشهدها دول المجلس منذ قيامه. وإن أردت أن أقف على العوامل التي ساعدت للوصول الى توقيع الاتفاق فإني ألخصها في ثلاثة عوامل رئيسية:
1. تغليب دبلوماسية الصحراء فالجهود الدبلوماسية التي قام بها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت للتقليل من حدة الخلافات الناتجة عن تلك الازمة وحرصه الحثيث نحو تقريب وجهات النظر. فضلا عن الدبلوماسية الهادئة من سلطنة عمان. بالإضافة الى الدبلوماسية القطرية التي تعاملت بواقعية وحكمة مع الأزمة. كل ذلك توج بمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى دعوة الأشقاء الخليجيين الى اجتماع قمة الرياض، من أجل تسوية الازمة، والتي أسفرت في نزع فتيل الخلاف وانهاء الازمة مع قطر. وهنا يمكن ان استدرك فأقول يجب ان نعترف أن هناك إرثا متراكما من هذه الصحراء بعاداتها وتقاليدها يسكن في جنبات ملوكنا وامرائنا حفظهم الله، فبالرغم من العولمة والتطور السريع لشبكات التواصل التي اثرت بشكل جذري على السلوك السياسي والاجتماعي والقيمي للدول وغلبت البروتوكولات والقنوات الرسمية في علاقاتها الدولية الا ان الصراحة والعفوية والمباشرة لا تزال سيدة الموقف في سلوك ملوكنا وامرائنا في الخليج حفظهم الله. فاجتماع الرياض في ظني كان اشبه بدبلوماسية الصحراء التي لا تنحاز سوى للصراحة والمباشرة والعفوية. ولن اسرد لكم كرونولوجيا القصص والحكايات المؤطرة لهذه المفاهيم لكني سوف أكتفي بحادثة ذكرها المرحوم الدكتور غازي القصيبي في كتابه «حياة في الإدارة»، يقول القصيبي إنه عندما كان وزيرا للصناعة والكهرباء (وزارة التجارة والصناعة حاليا)، كانت الوزارة تريد أرضا لإقامة منطقة صناعية جديدة وكانت هذه الأرض مملوكة لوزارة الدفاع والطيران التي كان يرأسها (الامير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله) والتي تقع بين الرياض والخرج. فرأى الدكتور غازي رحمه الله ان القنوات والمراسلات الرسمية سوف تطيل المسألة وتعقدها ويمكن ان ينتهي بها المطاف الى الرفض، فطلب الدكتور غازي موعدا لمقابلة الأمير سلطان- رحمه الله- على انفراد، وسرعان ما تم تحديد الموعد في اليوم التالي من الاتصال. وعندما دخل القصيبي على الأمير سلطان طرح عليه السلام وبادره بالقول: «وجهك زين اليوم يا طويل العمر»، ورد الأمير سلطان: «الحمد لله والشكر»، فتوجه القصيبي إلى الأمير وقبل أنفه، وقال: «عندي طلب خاص» فرد الأمير سلطان قائلا: «تفضل».. لكن القصيبي لم يذكر طلبه إلا أن يقول له الأمير «تم»، فضحك الأمير سلطان وتعجب من جرأة القصيبي وقال له «تم». فنطق الوزير بطلبه وقال: «أريد أرضا» ثم صمت، فقال له الأمير سلطان ليس لديك أرض.. فرد الوزير قائلا: «أنت خير من يشجع الصناعة الوطنية وأريد أرضا لإقامة منطقة صناعية جديدة». فابتسم الأمير سلطان -رحمه الله- كعادته ووافق على منح تلك الأرض لوزارة الصناعة والكهرباء وتمت إقامة المدينة الصناعية عليها.
2. تمدد نطاق الصراع الاقليمي
في ظل التحديات الخطيرة والظروف الصعبة والمتغيرات الاقليمية البالغة الدقة التي تمر بها المنطقة العربية، خاصة في البلدان المحيطة والمجاورة بدول الخليج، فلا تزال اليمن الخاصرة الجنوبية للخليج العربي وعمقه الاستراتيجي، تشهد اضطرابات يمكن ان تحولها الى دولة فاشلة يغيب عنها القانون والنظام بما يهدد أمن واستقرار الخليج. فضلا عن ملفي سوريا والعراق التي اصبحت بؤرة عالمية للمنظمات الارهابية امثال داعش والنصرة وغيرها، هذا الخطر الداهم الذي يهدد السلم والاستقرار العالميين.. أضف إلى ذلك موقع ايران في النظام الاقليمي، وطبيعه تفاعلاتها مع بقيه الاطراف الاقليمية وتقاربها مع واشنطن وتأثير ذلك على الامن الخليجي. كل هذه العوامل اسهمت بلا شك في انهاء الخلاف بين الأشقاء الخليجيين ورأب الصدع، بتغليب وحدة الخليج وامنه واستقراره ومصالحه العليا على الخلافات الشخصية والمصالح القطرية.
3. ديمومة النفوذ والحفاظ على المصالح
ذكرت في مقال سابق «اللحظة الخليجية»، وهي أن دول الخليج استطاعت كتكتل واحد ان تتحول الى مركز الثقل السياسي والدبلوماسي العربي، حيث اصبح «الجزء الخليجي اكثر تأثيرا في الكل العربي». فلم يعد الخليج «إقليم الهامش في المنطقة العربية، بل أصبح ونتيجة لأسباب جيو ـ استراتيجية متغيرة هو مركز الثقل في المنطقة العربية». فتجاوزها للخلافات ووقوفها صفا واحدا في مواجهة أي تهديدات خارجية، يضمن لها الاستمرار في لعب دور القيادة الاقليمية والعمل على عدم انزلاق منطقة الشرق الاوسط الى حالة من الفوضى السياسية او الصراع الطائفي والهيمنة والتدخل الاجنبي. وقد رأينا انه بعد يومين فقط من المصالحة الخليجية اطلق خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز قطار المصالحة العربية في سبيل وحدة الصف الخليجي والعربي، وهو «ما تصبو إليه شعوب المنطقة كافة من أجل أمنها واستقرارها».
* محلل سياسي