وفرت لي الأيام التي عشتها بين التونسيين معرفة لصيقة بعشقهم نبتة الياسمين، ومع إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في البلاد التونسية قلت في نفسي: تونس تعود لتتفيأ ظلال الياسمين من جديد، وتذكرت الأغنية المشهورة عند التونسيين "تحت الياسمينة بالليل" بتفاصيلها وبشخصية مغنيها المرحوم الأستاذ الهادي الجويني (1909-1990) الذي أدى هذه الأغنية الحالمة والرقيقة في زمن البناء والتأسيس لتونس الحديثة.
الذي لا يعرفه كثير من الناس عن تونس وتاريخها المعاصر أن البنية الثقافية والمدينة للمجتمع التونسي قامت على رؤية امتزج فيها التحديث بمفهومه المعاصر حينها الذي قد يساوي محاكاة المجتمعات الحديثة في العالم وفي أوروبا بالذات وفي فرنسا على وجه الخصوص. العنصر الآخر هو ضرورة تقوية البناء الداخلي للإنسان على هذه الرقعة عبر تكثيف نظام تعليمي صارم وملزم للناس في المدن والحواضر والأرياف.
وفي الفترة التي شهدت تراجع قوة القيادة التاريخية التونسية المتمثلة في شخصية الحبيب بورقيبة (1903-2000) وبروز نظام الرئيس بن علي الذي استمر من 1989 إلى قيام ثورة 14 يناير 2011م. هذه الفترة شهدت مرحلة ضبابية في حياة تونس والتونسيين على المستويات السياسية ومستويات الحريات واستمرار مسيرة البناء في تونس. المفيد أن فترة السنوات الثلاث المنصرمة من عمر الثورة التونسية شهدت تحولات دراماتيكية سياسية كان البعض في تونس يتمنى حدوثها وكان البعض لا يصدق أنها ممكن أن تحدث.
فحركة النهضة بزعامتها التقليدية وخطها العام الذي يوصف بأنه أكثر ليونة ومرونة عند مقارنتها بمثيلاتها من التجمعات السياسية الإسلامية التي بدأت تنظر إلى مقاعد السلطة في بعض البلاد العربية تمددت منذ 2011م كما يحلو لها وربما لا يتذكر الكثيرون أنها شكلت حكومتين لتقود البلاد والعباد في تونس وشاركت ضمن حلفاء سياسيين حزبي (التكتل والمؤتمر) في لعبة إدارة الدولة والحياة التونسية. حركة النهضة كانت في تقديري الشخصي تمارس لعبة العودة للسلطة من منافي الغرب وسجون النظام بذكاء ولكن دون خبرة ودون حرفية سياسية ودون قبول عام لدى قطاعات المجتمع التونسي المؤسس على فكر مدني أكثر تقدمية مما تطرحه النهضة.
اليوم تونس تعود بزعامة نداء تونس إلى أحضان المؤسسين، وتعود بشكل ربما لافت إلى حنين الشخصية القيادية الطاعنة في السن وهذا أمر له محاذيره من حيث القوة والعطاء ومن حيث خطورة القفز على السن، ومن ثم النظام والدولة والثورة والعودة لتجارب الماضي. نداء تونس - الذي يوصف بأنه عبارة عن اصطفافات سياسية لوجوه التجمع الدستوري القديم - ربما يبعث الراحة في أفئدة الناس مرحليا، ويخلص البعض من كابوس هيمنة الجماعة التي توصف في بعض دول الإقليم ومن قبل بعض التونسيين بأنها جماعة إرهابية وداعمة لخطوط الإرهاب في تونس وفي شمال إفريقيا وفي المنطقة العربية. وأيا كان فالوجوه الجديدة في السلطة بخلفيتها الحزبية وتاريخها السياسي ربما تكون أقدر على فتح آفاق جديدة للتفاهم والحوار والتعاون مع الدول العربية، أي عودة تونس إلى محيطها العربي بفاعلية أكثر بعد خروجها من عباءة النهضة ولو نظرياً.
عودة تونس إلى الجذور لا تعفي الحكومة الجديدة من مهام ثقال قد لا يحالفها النجاح فيها كما حدث مع غيرها.
فالمعضلة الاقتصادية رهان كبير يتطلب عملا جادا وصعبا وعلاقات دولية وإقليمية أكثر كفاءة، ويحتاج لتوفير ملايين الوظائف للعاطلين عن العمل الذين تراكمت أعداهم خلال الفترة الانتقالية. ومناطق الداخل والجنوب تحتاج إلى تنمية سريعة والسياحة تحتاج إلى عودة حقيقية إلى سابق عهدها يوم أن كانت تساهم بنصيب معقول في المداخيل السنوية للخزينة التونسية. إن أخطر ما يواجه تونس ما بعد الانتخابات، إضافة إلى التحديات الاقتصادية هو التحدي الأمني وبعبارة أكثر صدقا التحدي الإرهابي، حيث شهدت الفترة الانتقالية بروز جماعات وتنظيمات تصف نفسها بالإسلامية وتعادي كل مظاهر التطور والتحديث وكثيرا من أسس الحياة المستقرة في تونس، ومن ذلك الإعلانات التي سمع عنها الناس من أن حركة تسمي نفسها أنصار الشريعة في تونس هددت بإفشال الانتخابات الأخيرة و وعدت بتعطيلها.
هذا يفهم منه أن الفعل العنفي المبني على النظرية الإرهابية انتقل في حياة الدولة التونسية في هذه الفترة من الصدام مع النظام، أي نظام بن علي إلى الصدام مع المجتمع.
وهذا أمر بالغ الخطورة نتمنى ألا يخرج تونس من محيط الياسمين إلى محيط العنف، وتتضاعف خطورة النظرة الأمنية في الإقليم بتقاطع العلاقات الرأسية والأفقية للعنف والأمن، والعلاقة بين الجماعات في دول الإقليم.
* مستشار وباحث في الشأن الدولي