المبدعون أنواع: منهم من يكون كابن المقرب العيوني، ومنهم من يكون كأشعب الطفيلي؛ الأول له تجربة في العمق الثقافي والصدق الفني وجودة الإبداع، والثاني له قناع يتلبّسه كقناع السخرية والتطفّل على موائد المجتمع الإبداعي، واستغلال الفرص للأغراض الشخصية الدنيئة! وكلتا الشخصيتين تعيشان في مجتمع بلا نظام ثقافي ينظّم ويفرز الجيد من الرديء من أصناف المبدعين الحقيقيين من المزيفين، بل إن مجتمعاً تسوده المجاملات- ويغيب عنه الحس النقدي- سينتصر للطفيليين ليرى فيهم أبطالاً وأذكياء!، وفي نفس الوقت يعرض عن المبدعين ذوي الخامات الطبيعية الموهوبة، ويرى فيهم الغباء والسذاجة، والنتيجة أن المواهب الحقيقية تجد نفسها خارج السياق الاجتماعي، فتبحث عن فرصة للعزلة أو الرحيل كحالة ابن المقرب الذي آثر كرامة نفسه وإبداعه عن المهانة في بلده الذي لم يجد فيه أي تقدير واحترام. إن "الثقافة الاجتماعية" في التصنيف الطبقي أو الطائفي هي ثقافة متراجعة، وهي ثقافة خطيرة على مستقبل الأجيال والأدب وعموم المعرفة، ربما نتقبّل أن يصنف المجتمع "تمر الخلاص" على أنه أجود أنواع التمر، لكن ليس معنى ذلك أن الأنواع الأخرى ليست جيدة! وليست ذات قيمة مادية وذوقية، أقول ربما نتقبّل تصنيف المجتمع لهذا النوع من المنتجات الزراعية بهذا الأمر، لكننا لانتقبّل تصنيف المبدعين والمنجزين والمثقفين الجادين بمثل هذا النوع من الموازين. والمجتمع الذي يرى في منجزات أبنائه ورموزه الإبداعية بناءً على هذا النوع من الثقافة، هو مجتمع يحتاج لأن يراجع نفسه كثيراً، ويقف مع تقدير البشر لبشريتهم ومنجزاتهم.
منذ مايقرب من ثلاثة عقود صدر كتاب مهم عن الأحساء للأستاذ: خالد بن جابر الغريب، وهو كتاب "منطقة الأحساء عبر أطوار التاريخ" (ط١، ١٤٠٧هـ)، والحقيقة أن هذا الكتاب فيه جهد رائع، وإضافة مهمة، وملامح واضحة في البحث والتقصي والتوثيق، كما أنه لا يخلو من المواءمة بين ما هو شعبي/إنساني، وبين ماهو رسمي/نخبوي، بل إنه بتوثيقه للصور النادرة في الكتاب قد جعله ذا صبغة واقعية قريبة التناول للمتلقي، فلا هي ترتهن لمنهج تاريخي صارم، ولا لمنهج صحفي بسيط، بل هي مزيج من هذا التآلف من السهل الممتنع، والكتاب فيه سياحة معرفية للبعد الاجتماعي والإداري والتعليمي واللغوي واللهجات والأزياء والأسواق.
كما أن هذا الكتاب جاء في مرحلة لم تكن فيها الكتب التي تتكلم عن الأحساء إلا كتب الشخصيات المصنفة- اجتماعياً- من فئات الأسر العلمية، وكتاب الغريب بهذه الحالة الثقافية يخرج عن نمطٍ متعارف عليه في العرف الاجتماعي الذي لايرى الأدباء والمؤرخين إلا من ذوي الشهادات أو المناصب! بينما الأصل في فكرة المعرفة عموماً أنها لاتخضع لكل هذه الاعتبارات التي صنعها المجتمع، وأعتقد أنها الطريق الصحيح! ولعل هذه المفارقة بين المعرفي المحض، والفكرة الاجتماعية الخاطئة هي التي جنت على كتاب الغريب! ولم يجد الكتاب حقه من سياق المعرفة الثقافية التي يستحقها، لأنه تأطّر في إطار سلطة المجتمع المسيطرة على فكر الأفراد والمؤسسات، مع غياب تام لكل ما هو جاد من الكتابات النقدية المحايدة.
على المستوى الشخصي، لا أعرف خالد الغريب، ولكنني اطّلعت على كتابه، ورأيت فيه جهداً واضحاً، وهذا ماجعلني أتساءل مع عدد من الأصدقاء عن هذه "الحالة الثقافية" التي تحيط بالمبدعين والمنجزين: هل وجد كتاب الغريب مكانته اللائقة من الإشادة والتنويه والقراءات النقدية؟ هل كانت "الأحساء" اجتماعياً على قدر الجهد الذي بذله لها الغريب من البحث والتوثيق؟ أم أن الغريب وجد نفسه غريباً في مجتمعه، الذي لم يحتفِ به؟ هل عقدت جلسات نقدية وحوارية- في أروقة الجامعة أو النوادي الأدبية- تناقش هذا النوع من المؤلفات- ومنها كثير- وتعطي مؤلفي ومبدعي الأحساء مكانتهم من خلال منصة علمية يلتقون فيها مع قرائهم ومحبيهم؟
إن الكتابات والمؤلفات الكثيرة عن "الأحساء" تُقابل بعقوق فكري، وكسل ثقافي، ولا ندري إلى متى ستظل هذه الحالة الغريبة؟
* باحث في الدراسات الثقافية