في المقالات الثلاث الماضية.. قلنا إن تراجع أسعار النفط يقدم فرصة إيجابية لنعود إلى ذاتنا لاكتشاف قوتنا في أماكن عديدة، وفرصة لأن يجعلنا أكثر جدية في مراجعة الظروف والآليات الضرورية للتنمية المستدامة ولتقليل المخاطر المترتبة على دورات النشاط الاقتصادي وتقلباتها، وهي ضرورية لنا لكون 90% من موارد الدولة تأتي من النفط، كما أن التوسع المتسارع في النشاط الاقتصادي القائم على (آليات السوق الحرة) له تبعاته السلبية على حياة الناس، بالذات في المجالات الحيوية للاستقرار الاجتماعي مثل الأمن والتعليم والصحة والإسكان والنقل.
نحن نحتاج إلى الوقوف بجدية عند الحاجة الماسة للنظر في تكوين (رأس المال الاجتماعي) وهذا المفهوم هو توسع في مفهوم تكوين الرأسمال البشري. رأس المال الاجتماعي يتحقق عبر إنتاج المواطن الفعّال الإيجابي المشارك في إنتاج الخدمات الاجتماعية، ويتم ذلك بشكل فعال عبر مؤسسات النفع العام، أو القطاع الثالث في التعريف الاقتصادي. هنا تتحقق مشاركة المواطنين مع القطاع العام، وتتحقق العلاقة الإيجابية التفاعلية بين الدولة ومواطنيها.
هذا يفترض أن نعمل عليه جميعا حتى يكون هدفا إستراتيجيا بعيد المدى للوصول إلى (الديمقراطية المدنية)، والتي عمادها المواطن المشارك في إنتاج الخدمات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية. والسؤال: كيف السبيل إلى ذلك؟
يأتي ذلك عبر العمل على مسارين، الأول توسيع قاعدة المؤسسات الأهلية فما لدينا قليل، وربما تصل الآن إلى 1000 منشآة مقارنة بما لدى الأردن 8000. الثاني دعم ما هو قائم من منشآت نجحت في تكوين الخبرة وتقديم الخدمة، ولكنها تعاني من ارتفاع الطلب على خدماتها. بعض الجمعيات الخيرية تطورت ونجحت في تحقيق أهدافها، إلا أن مواردها لم تعد كافية وتصارع لتنميتها، وقلة الموارد ساعدتها لتطور كفاءة عالية في التشغيل. هذه الجمعيات سوف تبقى عاجزة عن التوسع، وإذا لم تتمكن من تنمية الموارد المستدامة فقد تتراجع وتفشل.. وهنا ستكون التكلفة عالية جداً على الدولة لتقديم البديل.
بناء (القطاع الثالث) ضرورة تنموية واقتصادية، وهذا يحتاج إلى (بنية أساسية) مساندة، مثل وجود (بنك للتنمية الاجتماعية) يجمع شتات مؤسسات التمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، مثل صندوق التسليف والادخار والصندوق الخيري اللذين يتجهان لتحقيق أهدافهما بتكلفة عالية جدا ومخرجات ضعيفة، وغيرهما من مؤسسات التمويل المشابهة.
رأس المال الاجتماعي مهم لاقتصادات السوق، فهو يقف في الوسط بين الحكومة والسوق لامتصاص الآثار الاجتماعية السلبية الجانبية التي تترتب على الاقتصادات الحرة. المدخل لذلك بناء القطاع الثالث، فالنشاط الاجتماعي المترابط يتحقق عبر المنشآت غير الربحية. لقد بنينا القطاع العام وتوسعنا فيه إلى درجة التخمة، والقطاع الخاص أخذ نصيبه الكبير من الدعم الحكومي، وبقي الآن القطاع الثالث. القطاع الخيري هو الأقرب للناس، وهو الأسرع و(الأكثر مرونة وإبداعا) في إقامة وإدارة المشروعات. لقد كان القطاع الثالث في المملكة حيويا ومتطورا وبداياته تعود لأكثر من ستين عاما. قبل تدفق عوائد النفط في منتصف التسعينيات الهجرية، كانت المؤسسات الأهلية والجمعيات التعاونية نشطة، وكانت الكهرباء تتم عبر منتجين محليين. جاءت الطفرة فدخلت الدولة بخدماتها.. وهنا انتهى هذا القطاع وتراجع لأكثر من عقدين، ونعاني الآن لإعادة الاعتبار له وتطوير مفاهيمه وتمويله. النظرة التنموية للاقتصاد في القرن الجديد تتطور.. وقناعات منظري الليبرالية الجديدة ترى أن رأس المال الاجتماعي حاجة جوهرية في المجتمع، فالإشراف الواسع للدولة على الخدمات الضرورية للناس، يُضعف من دور رأس المال الاجتماعي؛ لأن هذا الإشراف يسهم في وجود (مواطنين تابعين) ومعتمدين كثيرا على غيرهم، بالذات القطاع العام. هذا لا ينتج المواطنين الفاعلين والمنظمين، مما يقلل من قدرة الأفراد على توليد رأس المال الاجتماعي. من مهمات الحكومات الذكية بناء وتسهيل قيام (المواطن الصالح)، وإحدى الآليات لذلك توسيع دائرة المسؤولية والصلاحية للناس لإدارة الاحتياجات المحلية اليومية المباشرة، وهذا ما تعمل عليه وتنتجه منشآت القطاع الثالث الذي يتيح المجال للمشاركة في تقديم الخدمات للناس بالذات الفقراء ومتوسطي الدخل وأصحاب الاحتياجات الخاصة الناتجة عن الإعاقة أو الكبر، وهذا المسار يرفع مستوى المواطنة والإحساس بالمسؤولية تجاه الذات.. وتجاه الآخر، وتجاه الوطن.