عندما اهل على دنيا المثقفين العرب ومنهم محترفو الشعر (الشعر الحر) قامت الدنيا ولم تقعد من بعض الأدباء والشعراء وبعض معلمي الأدب, فمنهم من اتهم ذلك الشعر بأنه مؤامرة لإفساد الشعر العربي وبعضهم قال إنه مؤامرة للقضاء على محصلات الشعر الفصيح واللغة العربية, لغة القرآن ولقد شغلت الصحافة آنذاك والأندية الأدبية كما شغل النقاد فترة طويلة تقدر بربع قرن، ثم أخذت تتراجع الى أن أصبح ذلك الشعر محل الترحيب فعقدت الندوات والمحاضرات والمناظرات لمناقشة جدية أولئك الذين التزموا بهذا النوع من الشعر حتى انطفأت جذوة الانكار وسمح لذلك الشعر بأن يأخذ مكانه في الدراسات الأدبية وفي المناظرات والمحاضرات في الصحافة والأندية الأدبية والمجالس الخاصة حتى عفى ذلك الخلاف وأصبح كأن لم يكن. واليوم تأتي المفاجأة الثانية بما يسمى (القصة القصيرة جداً) والمعروف أن هذا النوع يقسم الى الرواية والقصة العادية والقصة القصيرة في حدود صفحتين أو ثلاث صفحات ثم طرأ شيء من نزع بعض الحواشي ومن الطول والعرض وقد وقع في يدي كتاب يحمل عنوان (القصة القصيرة جداً) فقادني الى قراءة بعض محتوياته فماذا رأيت؟
هذه القصة لمن يلم بشيء من العلم بهذه القصة المسماة (القصيرة) جداً كنت أحسبها منذ أن اطلعت على عنوانها أنها قصة تتكون من صفحة أو صفحتين أو ثلاث صفحات او حتى نصف صفحة الا أن المعجزة حدثت عندما تكرم أحد الأندية الأدبية بإهدائي مطبوعة جميلة الطبع والورق مكتوبا على غلافها (قصص قصيرة جداً) وترددت في فتح غلاف ذلك الكتاب وأنا أتكهن عما سيكون داخل الغلاف الأنيق ثم قررت ألا أستبق الأحداث بل علي أن أفتح الغلاف وأقرأ ما بداخله.. فتحت الغلاف ويالعجب ما رأيت.. رأيت أوراقاً غطاها الحبر في حدود سطر أو سطرين وبعضها لم يتجاوز نصف سطر فماذا بظنكم تحتوي تلك المساحة من الورق ومما يسمى بالقصة القصيرة قد لا يتجاوز أربعا أو خمس كلمات وفي بعض الأحيان يصيبها فيض من كرم الكاتب أو المؤلف لتصل عدد الكلمات حوالي عشر كلمات لكنها خالية من معنى القصة ومخرجاتها وحبكتها وربطها بذهن القارئ الذي يريد متابعة القراءة لأنه لن يجد شيئاً يدعوه لمواصلة القراءة, ولو حاولت أن أقدم بعض النماذج فسوف ينظر القارئ الى ما كتبته على أنه هراء وإضاعة الوقت.
خذ مثلاً: حاولت نملة ان تصعد الجدار لكنها سقطت فحاولت مرة أخرى فلم تستطع.
ذهب شخص الى السوق لشراء بعض ما يحتاج أهله من اللوازم المنزلية فلم يعد.
وكثير من أمثال هذه النماذج المبتسرة التي تعدت على مسمى (القصة القصيرة جداً). لقد قرأت ذلك الكتاب فلم أجد مسمى لذلك الاسم وإنما هو مجرد سواد في بياض واسم المؤلف يلمع على وجه الغلاف الأمامي.. وآخر ما خلصت اليه تأملاتي فأين هذا الذي طفح به الكيل حتى صار عند البعض قصة فلو كانت لهذا الفن حقيقة لما أعجزت نجيب محفوظ أن يحول (الثلاثية) الى مسلسل تخرج منه آلاف الكتب.
* المدير العام لوكالة هجر للإعلام