نتحدث كثيرا، عن خطر الطائفية والانقسام والتخاصم، وتكاد تجمع العناصر المثقفة والتي دون ذلك، على أن تعاظم الخلاف والاختلاف سواء المذهبي أو الفكري أو الديني أو المصالحي، يفضي في النهاية إلى صراعات قد تتحول في أغلب ظروفها إلى دامية كحال تلك الحاصلة عند بعض جيراننا العرب، فنحن نحتكم إلى سنن بشرية واحدة لا تفرق بين حدود يمنية أو عراقية أو خليجية.. ورغم حديثنا كثيرا عن هذه المواضيع إلا أننا لم نصل حتى الآن إلى نقطة تقارب تمكننا من بلوغ الحد الأدنى من احترام هذا الاختلاف.
الكثير يرجع أسباب عمق هذا التضارب إلى التطرف الديني، وهي نظرة وجيهة جدا في تفسير المشكلة، فالتطرف بشكل عام سواء الديني منه او الفكري الجدلي يقود إلى الحدة والإقصاء والتعدي ورؤية المسائل من زوايا مضللة.. المهم هنا أن الاتفاق قد حصل بشكل شبه جمعي على أن التطرف الفكري والديني هو السبب الرئيس في تعاظم خلافنا، وأحيانا كراهيتنا لبعضنا. لكن للأسف أننا نقف عند هذه النقطة وننتهي. نحن لم نلتفت بعد للممارسات التي كانت وما زالت تغذي عقل التطرف في حياتنا. ليسوا وحدهم أصحاب المذاهب والآراء المختلفة من يعادي بعضهم، بل حتى في المذهب الواحد وأصحاب الاتجاه الواحد نجد المنقسمين والمتكارهين والمختلفين..
في هذا الوضع يجب أن نطرح السؤال الأهم: إذا كان سبب خلافنا واختلافنا الحاد سواء في الرأي أو المذهب أو أمور الدين بشكل عام هو نتاج التطرف، فلماذا يحدث التطرف أساسا؟ ولماذا يستمر ويتضخم ونحن على علم بشره وخبثه وباطله؟ السبب ببساطة أننا رأيناه بشكله الكبير ولم نلتفت لأجزائه الصغرى التي تكون منها.. فلو عدنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن أساسيات التربية في أغلب أحوالها غير متسامحة مع المختلف، وهي من أنشأت قواعد الخلاف والاختلاف والحدة والغلظة. فلقد سمعنا عن النار والعذاب أكثر مما سمعنا عن الجنة والنعيم، وعرفنا عن الموت والقبر أكثر مما عرفنا عن الحياة.. حدثونا عن وجوب الكره باسم ولأجل الدين أكثر من المحبة والتسامح تحت ظله، وبعد تاريخ مليء بالوعظ والكبت، جاءت مساحة حديثة لحرية الرأي عبر وسائل التواصل الحديثة فبرزت حدة الاختلافات وأصبحت هذه الوسائل مجالا لبث الكراهية والتنفيس والترويج للفتن.. لقد تعمقت الأيديولوجيات الفكرية حتى بين قادة الرأي، وأصبح العامة منقسمين في دوائر فكرية وثقافية متباينة ومتضاربة، وما زال العقل الجمعي يرى أن من يخالف مذهبك هو عدوك ولو كان جارك، وأن الوطن هو عدوك الثاني إن لم يتحقق فيه مرادك وتشيع فيه توجهاتك وأيدولوجياتك.. وما زال الناس يعتقدون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مربوطا بأمور معينة، منها أحوال العباد وتحركاتهم في الأسواق والأماكن العامة!! وأن الأصل في المجتمع هو الفساد ما لم تقم فئة معينة بحماية فضيلته.