لا أعود إلى الماضي لأقف على الأطلال، أو لألتقط صورا جامدة. تلك عودة للماضي غير منتجة. يُسلَّط ضوءُ الذاكرة أحيانا لفتح نافذة للتأمل. أما الحنين إلى الماضي فهو حنين إلى شيء مفقود في الحاضر.
قبل أيام عادت بي الذاكرة إلى أجواء بداية الثمانينيات؛ إلى مدينة جامعية خارج الحدود. تذكرت الفضاء الأكاديمي الرحب في تلك البيئة الأكاديمية المنفتحة، حيث لا توجد خطوط رمادية تعيق طرق البحث عن المعرفة، أو تحول دون الإبداع والابتكار. قد يكون بحثك العلمي مغايرا لأفكار وتوجهات الأستاذ المشرف عليه، غير أنه لا مكان في البيئة الأكاديمية المنفتحة لرؤية أحادية الجانب، أو للمزاج الشخصي، مادام البحث مقنعا وملبيا لشروط الدراسة العلمية وقواعدها وآلياتها. لا يُحرم الطالبُ من الدرجة التي يستحقها لأسباب خارجة عن موضوع البحث. في العالم العربي تُحجب أو تُسحب الشهادات العلمية لاعتبارات أيديولوجية. وهو شكل من أشكال الحجر على الفكر.
لن أبرح المكان ولا الزمان للإشارة إلى شكل آخر من أشكال الحجر الفكري نَقَلَه بعض الطلبة العرب معهم إلى تلك البيئة الأكاديمية المنفتحة. سأعود بالذاكرة إلى مكتبة الجامعة نفسها. وكانت من أكبر المكتبات الجامعية، ببنائها الشاهق، وقاعاتها الواسعة، وفهارسها الثرية، وكتبها النادرة، ومخطوطاتها ووثائقها وأفلامها. هنا، إذا بحثت عن مرجع ولم تعثر عليه في فهارس المكتبة، فما عليك سوى أن تزود موظفي المكتبة بعنوان الكتاب واسم المؤلف ودار النشر، وستجده بعد أيام بين يديك. (الكلام هنا على بداية الثمانينيات من القرن الفائت، أي قبل التطور التقني الذي أتاح لنا الحصول على الكتاب الإلكتروني في دقائق معدودة).
معنى هذا أنك طالب يبحث عن المعرفة. ومن حقك الحصول على المعلومة التي تريد، ومن واجب المؤسسة التعليمية أن توفرها لك بعيدا عن تعقيدات البيروقراطية، وتقلبات الأمزجة والاجتهادات الشخصية، والاعتبارات الأيديولوجية. لقد تخلصت بلدان العالم الأول من ذلك الحصار الذهني الذي عانت منه في عصور سابقة. لكل فرع من فروع المعرفة دور خاص. وكانت كتب الأدب العربي والتراث وكل ما له صلة بتاريخ الحضارة العربية والإسلامية تشغل الدور الرابع من مبنى المكتبة. لا علاقة لتلك العناوين بتخصصي بل بشغفي الثقافي الخاص. كما لا يعكر متعة تصفح الكتب في هذا الجزء من المكتبة إلا ممارسات بعض الطلبة العرب الذين يقومون بالتعليق على هوامش الكتب، أو طمس بعض الأسطر، أو نزع بعض الصفحات التي لا تناسب أهواءهم. وفد أشرت إلى ذلك السلوك من قبل في سياق الكتابة عن العنف. لكني أعيد الإشارة إليه اليوم لأتأمل حصاد تلك الممارسات بعد عقود ثلاثة.
تصرف غير منضبط يحجب المعرفة، ويحجر على الفكر. الكتاب ملك للجامعة أولا وللقراء ثانيا، لذلك فإن تلويث حاشية كتاب بتعليقات بذيئة، أو نزع صفحات منه، أو طمس بعض سطوره، هو شكل من أشكال العنف. والسؤال الذي يفرضه مثل ذلك التصرف هو: «هل يستحق الحرية من لا يؤمن بها»؟ بعضهم يرى أن الخطأ لا يعالج بخطأ مثله. وبعضهم يرى أن من يحرم غيره من الحرية لا يستحقها.
كنت متفائلا، آنذاك، فافترضت أنها تصرفات فردية، أو ظاهرة عابرة، وسوف تختفي مع الأيام. لم أكن أتوقع أن تلك الممارسات هي أولى بذور التزمت والعنف، وأن الألفية الثالثة سوف تحصد ثمار تلك التوجهات.
متخصص في الإدارة الدولية المقارنة