DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

صاحب القُفّة

صاحب القُفّة

صاحب القُفّة
صاحب القُفّة
أخبار متعلقة
 
ليس غربياً على طفل صغير بريء ألا يسأل أحداً ببساطة أن يحمل عنه القُفّْةَ التي فوق رأسه، والقفة كبيرة، بل وثقيلة كونها ملأى بالرُّطَبْ، ومن الصعب استقرارها على رأس أقرع يشبه المثلث. تنزلق القُفّْة في كل اتجاه، رغم كفيه - اللذين استحالا سمراوين إثر العمل في مزارع النخيل برفقة أبيه - تقبضان بطرفيها، وتشدها من الأعلى إلى الأسفل، وبينا تنقبض من الأمام والخلف، وتندلع من اليمين واليسار.. تلج جمجمته في أسفلها، فيرتفع الرطب إلى الأعلى، ويتناثر قلةً وحبيبات في الطريق الزراعي المتعرج، المنسدلة إليه سعف النخيل وأغصان الشجر الصغيرة، المفروش جانباه حشائش ذات ألوان وأنواع مختلفة. يتابع سيره، ولا ينسى التغريد بالفرح والعصافير، والطرب والبلابل، والتحليق والفراشات، والانتشاء والنسيم العليل المعبق برائحة الريحان والطين، والرقص وفرس النبي بين الحشائش الخضراء الندية.. حافي القدمين، لا يهاب انزلاقهما إثر الأرض المتماسكة، التي لا تجف من مياه عذبة جوفية تُجْرى إليها أو تسقط عليها من السماء. يعبر سريعاً، إلى الطريق الأخرى، الأكثر اتساعاً، فوق جسر صنع من جذع النخيل، على (ثبر) مليء بالماء الجاري المتسرب والفائض من المزارع، دون أن يمر بفكره السقوط، فلا تزل له قدم، بل يستمتع بنقيق الضفادع، ومنظر شجو (الكيكلان) المتسارع في أعماق الماء الصافي إلا من شوائب قلة، خضراء، مائلة جوانبها للصفرة، وأعواد حشائش متخلفة يابسة نادرة، وشجيرات صغيرة نابتة للتو. يخطو في الطريق، وإذا قفز حفرة فاجأته، وتساقط بعض الرطيبات، قال: (اللهم رزقتنا فما أروع أن ترزق منا!!) هذا إن لم يتناول حبة مستوية ويلقي بها إلى سرب من النمل فيستمتع بمشاهدته مسروراً وهو يحملها إلى مخبئه. يخترق الطريق الطويلة، المارة فيها القواري، فلا يركب، مهما أمعن أصحابها طلبهم في إيصاله، مبرراً بأنه يفضل المشي كرياضة وطاقة وحياة، بل ويمرق ببعض (السياكل). ورغم رغبته المعدومة لها، إلا أنه يحمد الله على أن سخرها للإنسان ليستخدمها خاصة في الطرقات الصغيرة الضيقة، ويكثر الحمد عندما يرى بعض السيارات، التي يلتقط لها صورة لحلم مستقبلي جميل. يمضى، يوزع في كل المنعطفات ابتسامة وضحكة، رغم لهيب الشمس الذي يهوى على جسده الضامر، المرتدي ثوباً مهلهلاً، قديماً، واسعاً، مرقعاً، استحال بياضه رصاصي اللون لكثرة الاستعمال والعمل به وتوافد الغبار إليه، تتوهج حرارة الأرض من تحت قدميه الأملحين، ذي الساقين الرفيعين، العاريين، اللذين يطلان من ذيله الممزق، فلا يفكر في رفعهما ألماً، أو ولا يزيد سرعته فراراً، ولا يخطو تبرماً على أي شيء يمر به ليكون لهما وقاء. يستأنف المشيَ، إلى أزقة قريته المضطجعة ما بين النخيل والماء والوجوه الحسنة، يؤكد على ثبات القفة.. يعيد ترتيبها إن مالت.. يتفرج على الأطفال تربه وهم يلعبون ألعابهم الشعبية (التيلات، والطاقية، والغميمة، والكرة) وغيرها، فلا ينكمش وجهه المِسْمَر لشعور بالحرمان، بل يتهلل وجهه لهم، ويضحك لضحكهم، ويفرح لفرحهم.. وكبارع يركل الكرة إلى هدفها، وكشاعر ينفعل لانفعالهم وكأنه يلعب معهم، وكحكيم يطلق مواعظه وتوجيهاته إليهم. يمضي في طريقه، مشرئب العنق، وهامة مرفوعة، وصدر منفرد للأمام، وذراعين مشمرين.. يفعل كالكبار، يسلم على الكبير، ويحيي الصغير، بل ويدعوهم إلى تناول بعض الرطب، ويقدم بعضاً منه إلى بعضهم كرماً ولطفاً ومحبة، ومخالبه الدقيقة، لا تزال تتشبث في القفة التي لا يشعر مع كل نقص منها، بأنها فعلاً نقصت رطبة واحدة. أراقبه في دهشة عظمى مذ أن يخرج من مزرعتهم إلى أن يغيب خلف باب بيتهم، أراقبه أغلب الأيام، لا يسأل أحداً مساعدته، وإن كانت القفة تهتز اهتزازاً شديداً، إثر اهتزاز جسده بكامله، بسبب قدمه العرجاء. ابتسم له، وأرفع معنوياتي به، وأدعو لأبيه الفلاح الذي ملأه ثقة وانتصاراً على هذه الحياة، من رأسه إلى أخمص قدميه. هوامش: القفة: زنبيل صغير يخصص لحمل الرطب والمنتج الصغير من المزارع. الرُطَبْ: وهو تمر النخير قبل استوائه كاملاً. ثَبُرْ: وهو المصرف الصغير بين المزرعة والمزرعة الأخرى. الكيكلان: وهو حشرة سوداء صغيرة بحجم حبة العدس تسبح في الماء بنحو سريع جداً ومدهش. القواري: جمع (قاري) وهو العربة التي تجرها الحمير. فرس النبي: هو السرعوف، الذي من مزاياه أنه يتغذى على الحشرات ما يجعله أفضل حارس للمزارع من هجوم الحشرات خاصة الجراد.