أرسل لي أحد الطلاب مقالاً بالانجليزية للاطلاع وإبداء الرأي، وأذكر -أيام ما كان عندي ذاكرة- دهشتي من ذكائه في الطرح وقوة حجته في الإقناع، وقد تناول في مقاله تراكمات منع التدخين في المنشآت والمؤسسات، وضرورة تعويض المدخنين باعتبار تغليب حرية طرف على آخر وعدم تخصيص مواقع لهم كالتي في المطارات، وما زلت حتى اللحظة لا أعلم كيف تفتق ذهن الطالب لمثل هذه الفكرة التي وإن بناها على باطل، إلا أنها تنم عن عمق في التفكير بثقافة حقوق الأفراد وبمفهوم الحرية وحدودها، وكيف انتقل من مناقشة الحرية الفردية واعتبارية المتضرر ورغبته في منع التدخين وآثار ذلك صحياً، ليقفز بجانب المدخنين باعتبار أن مصلحة طرف لا ينبغي أن تطغى على حقوق الطرف الآخر. الحقيقة أن القدرة على رؤية الصورة التكاملية في الطرح والاستيعاب واصدار الأحكام ملكة لا تتأتى لأي كان، لكن ولأننا مجتمعات عاطفية فنحن نقفز للمتضرر ونعاقب الطرف الآخر بعيداً عن فهم النسبة والتناسب.
حرية التعبير وحرية الرأي هما موضوع الساعة، وقد شرعنا جميعاً في الممارسة بغض النظر عما يلحق الآخرين من ضرر، متناسين ومتجاهلين أن اجتياز الحدود غير المرئية لمساحات فكر وتصرفات الآخر هو همجية وتجاوز لحدود ونسبة الحرية الحضارية.
نعلم يقيناً أن بعضاً من ممارسات الدولة -رعاها الله- قد تحمل في طيها تصحيح الصورة الذهنية للمواطن وتعزيز الدور الريادي للمملكة، لكن جهل بعض المواطنين وسوء تصرف البعض الآخر، وخيالات حرية الرأي والتعبير تجعل من صورة المواطن السعودي أضحوكة للآخرين وتضر بالجهود الحكومية داخل وخارج الوطن! الفيديو الذي يتعرض به مقيم بريطاني لهجمات في وضع (أقرب) لحلبة مصارعة من أحد المواطنين، هو عرض مخجل أبعد ما يكون عن واقعنا نحن السعوديين، وعن منجزات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنه بعيد كل البعد عن توجيهات الهيئة بحفظ كرامة وحقوق الآخرين. عرض أشبه بفيلم بدا به الرجل -موظفاً كان أم متطوعاً- في اسقاطات كفيلة بانهاء وظيفته كدفعه للبريطاني وتشابكه مع المرأة على الرغم من صراخ الرجل (هذه زوجتي ..كيف تجرؤ). صورة لا يمكن أن تكون لنا، ولا تمثل شريعتنا ولا تمت لأصالتنا ولا لحضارتنا، حتى وإن ثبت وجود الخلوة أو الاخلال بالآداب باعتبار أن الاجراءات النظامية لا تقضي الاقتصاص باليد من الآخرين وتطبيق العقوبة في الشارع. الحق والباطل خيطان لا يشتبكان لدى العقلاء، والدين جوهر الدولة والحفاظ على حدوده هو مهمتنا جميعاً، ولأننا نحب هذه البلد فلا بد أن نصل لمرحلة النضج في الاحتواء لتعزيز صورة السعودي المسلم وليس السعودي الجلاد.
عضو هيئة التدريس ـ بجامعة الدمام
[email protected]