أمر ملفت حقاً أن تتصدر إجازة عيد الأضحى نقاشاتنا بالأمس، وهل ستشمل الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة أم لا. ورغم أن نشرة رسمية صدرت بهذا الخصوص، فما يسترعي الانتباه هو تعلق البعض منا بالإجازة، التي تعني عدم الالتزام بعمل، والتوسع في ساعات النوم و"التسدح"، والرغبة في الراحة والدعة أمرّ نتطلع له جميعاً، وإن بدرجات متفاوتة، لكن كان يجدر أن تكون انطلاقة العام الدراسي متحمسة متحفزة ومتطلعة لسنةٍ مفعمة بالتحصيل والجد، حتى تكون الاجازة بعدها مستحقة.
والعام الدراسي ليس سواء في كل المراحل؛ فالمرحلة الجامعية تختلف نوعاً بالنظر لتفاوت الأدوار عما ألفه الطالب في صفوف التحصيل العام حتى الثانوية؛ ففي المرحلة الجامعة يقع عبء أكبر على الطالب، إذ عليه أن يتخذ قرارات حاسمة وأن يطلق مبادرات؛ وفي جانب اتخاذ القرارات عليه أن يقرر: هل سيكمل دراسته وفي أي تخصص وفي أي جامعة داخلياً أو خارجياً. وبالقطع، فإن المبرزين هم من لديهم فرص متعددة ومتنوعة، أما من كان تحصيلهم "على الحفة" فتتراوح خياراتهم بين أن تكون محدودة أو معدومة.
قرار الالتحاق بجامعة هو من بين الأهم في الحياة العملية للشخص، ولذا فهو بحاجة لتحضير ومران مبكرين، ومع ذلك فإنك عندما تسأل بعض خريجي الثانوية العامة عن رغباته الدراسية، تجده خالي الذهن وكأنه يريد شخصاً آخر أن يتخذ القرار نيابة عنه! والسبب أنه لم يعتد اتخاذ قرارات رئيسية لنفسهِ بنفسه، وهنا يأتي دور التهيئة والتحضير بما يمكن خريج الثانوية من اتخاذ القرار المنسجم مع قدراته ورغباته. وليس محل شك أن وعي الأسرة لذلك سيمكنها من مساندة أبنائها مبكراً للتعرف على التخصصات والجامعات وحضور الندوات وورش العمل التي تنظمها الجامعات لتعرض برامجها رغبة في استقطاب الطلاب الجدد.
وبالمقابل، هناك شريحة من خريجي الثانوية العامة تمتلك من الوعي ما يجعلها مُصرّة على الانضمام لجامعة بعينها، أو الالتحاق بتخصص معين. وتجد لدى هؤلاء قدراً هائلاً من الدافعية والرغبة للانكباب على ما يحبون، هذا من حيث المبدأ، فإن فازوا بالانضمام للجامعة التي يرغبون، فالاحتمال الأرجح أنهم سيتخرجون بتفوق وفي السنوات المحددة دون تأخير، ولعل تفسير ذلك هو تحملهم وتضحيتهم إثباتاً لذواتهم ودفاعاً عن اختياراتهم. وقد لا يكون من المبالغة القول إن أمثال هؤلاء وبمجرد اختيارهم -عن وعي وقناعة- لما يريدون فعله بعد تخرجهم في الثانوية، ونجاحهم في الالتحاق بالجامعة التي يرغبون، يكونون قد قطعوا نصف الطريق نحو النجاح -بتوفيق الله من قبل ومن بعدّ-. ومع ذلك، فهناك من الأهالي من لا يدرك أهمية ذلك، ليفرض على ابنه -إما إجباراً بواحاً أو التفافاً- توجهاً محدداً، وهذا أمر مآلاته غير مجدية إجمالاً. إذ التأثير ينبغي أن يرتكز إلى نقاش يقوم على بسط الحقائق ينتج عنه قبول من الابن عن اقتناع. أذكر عندما كنت أُدرس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كنت مشرفاً أكاديمياً لأحد الطلاب، ولم يك الطالب موفقاً في تحصيله، ودار بيننا حديث بيَّن لي الطالب أن انضمامه للجامعة نتج عن إصرار والده، الذي كان قد تخرج من الجامعة وأراد لابنه أن يسير على خطاه. وفي النهاية، فُصل الطالب من الجامعة والتحق بجامعة متميزة في الخارج وتخرج منها بتفوق.
وبحكم أننا في أول أسبوع من بدء الدراسة الجامعية، فلعل من المفيد أن تسعى الجامعات لاحتضان الملتحقين الجدد، وأدرك أن للعديد من جامعاتنا برامج تهيئة في بداية العام الدراسي وبعضها تبدأ حتى قبل البداية الرسمية للعام الدراسي، ولذا فما أقصده بالاحتضان يتجاوز تعريف الطالب المستجد على مداخل ومخارج المدينة الجامعية وعلى أسماء المباني والمواقف التي يسمح للطلاب إيقاف سياراتهم فيها ومواقع المباني الأكاديمية والمساندة، ويسعى لبناء روابط ألفة وثقة بين الطالب والجامعة؛ فثقته واعتداده ستولد لديه قناعة وتعلق ثم دافعية للتحصيل والتفوق، وستجده يفضل أن يقضي أطول وقت في أبنية الجامعة ومكتباتها، فلا يحلو له شيء إلا في أحضانها أو بالقرب منها. لعل هذا هو الفارق بين المدرسة والجامعة؛ في المرحلة الجامعية يذهب الطالب إلى مؤسسة لها اسم وتميز وتفرد وسمة، فإن لم يشعر الطالب بشيء من هذا الانبهار، فهو إذاً أتى من أجل الشهادة، وستكون السنوات التي يقضيها في الجامعة فترة انتظار طويلة ومؤلمة، أما إن كان مرتبطاً ومتعلقاً بجامعته فسيعطيها دائماً الأولوية في الوقت والجهد بأريحية وسعادة، لتنقضي سنوات الدراسة فيحصل على شهادته وفوقها سيقتطع لنفسه جزءاً من اسم جامعته وتميزها وتفردها وسمتها ليزرعها في وجدانه فلا تبرحه أبداً.
* متخصص في المعلوماتية والإنتاج