لا شك في أن إذعان نوري المالكي للضغوط من الداخل العراقي، ومن مختلف مكوناته، ومن القوى الدولية والإقليمية، التي أدركت أنه بات جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل؛ نتيجة سياساته الطائفية التي أقصت مكونات أساسية من الشعب العراقي، وسمحت لقوى التطرف بالنيل من سيادته، والدخول على خط المواجهات بين عناصر العشائر المهمشة التي ضاقت ذرعا بتلك السياسات الهوجاء، وقوات المالكي، لتنتهي إلى ما آل إليه الحال في العراق اليوم من نذر التمزق والتفتيت، وضرب اللحمة الوطنية. لا شك في أن خروج المالكي من السلطة وهو الذي أمسك بكل مفاصلها، سيخلق مناخا مختلفا في العراق الشقيق، وسيتيح الفرصة لعقلاء العراق، للعمل على إعادة ترميم لحمته الوطنية، وجمع كلمة أبنائه، والتخفيف من وطأة اللغة الطائفية، التي وظفها نظام المالكي على مدى ثماني سنوات للإحكام على السلطة، إلا أن هذا المناخ الذي تتهيأ الآن له كل الظروف، عبر الترحيب الدولي والإقليمي بتولي الدكتور حيدر العبادي لرئاسة الوزارة، يحتاج بالدرجة الأولى لإعادة بناء سياسات جديدة، قائمة على جمع كل ألوان الطيف السياسي والإثني والمذهبي تحت راية الوطن، وإعلاء قيم المواطنة على حساب الولاءات المختلفة، ثم العودة بقوة إلى الحضن العربي الذي كان العراق أحد أهم أركانه، قبل أن تمتد إليه الأيدي العابثة، التي تريد أن تستخدمه كمجال حيوي لبرامجها ومخططاتها التوسعية، أو كورقة ضغط للمساومات الدولية، وهي عملية شاقة وعسيرة بالتأكيد، بعد كل هذه السنوات التي انشغل فيها العراق بالنزاعات، عوضا عن الانصراف لإعادة بنيته التحتية، وصناعة الخدمات لمواطنيه، لكنها حتما ليست مستحيلة، ولا عصية إذا ما خلصت النية، وأدرك العراقيون أنفسهم محاذير وأخطار المرحلة السابقة وتبعاتها، واستطاعوا تجاوز الماضي بكل أوزاره بالنظر إلى المستقبل، وفتح كل الأبواب للعمل الوطني بعيدا عن المحاصصات، وتقاسم المناصب والسلطات، وأدركوا من كان يريد بهم الوقيعة، ومن يريد لهم الخير والاستقرار، والعودة إلى الطريق العروبي الذي لا يمكن أن ينفصل عنه الشعب العراقي بتأريخه الطويل.
وإذا كانت الملفات التي سيجدها رئيس الوزراء العراقي الجديد على مكتبه في الوزارة ضخمة ومعقدة وكبيرة، فإن قدرات وإمكانيات أبناء العراق المخلصين والمدركين لأهمية حضوره في الحضن العربي، ستكون أكبر باتجاه تفكيك تلك العقد المركبة، واستعادة توازن البلد واستيعاب كافة تعددياته ضمن إطار المواطنة، وليس أي شيء سواها، وهو ما نثق جميعا خاصة في دول الخليج التي تدرك أهمية عودة العراق إلى مكانته الطبيعية، من أن الوزارة الجديدة ستعيه تماما، وستعمل بكل جهدها من أجله.
ولعل ترحيب المملكة بانتهاء أزمة السلطة في العراق، وتلاقي الفرقاء العراقيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم على الرئاسات الثلاث، والدعم الدولي غير المحدود للحكومة الجديدة، سيفتح الطريق أمامها مجددا لإعادة بناء عراق قوي، وبنفس هويته القومية كأحد أهم الدول المؤسسة للجامعة العربية، والعاملة على ضبط أمن المنطقة، وتسهيل انطلاقاتها باتجاه البناء، وهذا ما نرجوه ونتمناه لبلاد الرافدين، شريطة العمل على بناء الثقة بين كافة الأطراف، وتعزيز سياسات حسن الجوار، وتعزيزها بالقول والعمل؛ للخروج تماما من ذلك النفق الذي كاد يغرق العراق ببحر من النزاعات.