ثمة كتاب صدر مؤخراً باللغة الإنجليزية بهذا الاسم، والعبارة إجمالاً تعني المشاركة والمرونة وعدم الاستئثار، فأحياناً أنت من يأخذ، لينقلب دورك في أحيان أخرى لتعطي. ومفهوم "خذ وهات" يلخص استراتيجية للتعاون والتكامل لتحقيق مصلحة مشتركة أو لتفادي خطر فيما بين الأفراد بل وحتى الشركات والمؤسسات بهدف بناء شراكات تقوم على تبادل الفهم والاقتناع وليس الإذعان، الذي يقوم على إرسال أحد التعليمات وينحصر الطرف الآخر في استقبالها وتنفيذها. وتربوياً، فطريقة "خذ وهات" فعالة ضمن الأسرة وفي المدرسة نبني من خلالها جيلاً يدرك أن من حقه أن يسأل وليس فقط أن يقوم بالتنفيذ أو التمرد. لست طبيباً نفسانياً، ولكن تفسير الغضب والسلوك العنيف عند ممارسة بعضنا لحياته- حتى اليومي منها- يعكس قدراً من الكبت في التعبير عن الذات وضيقاً بالآخرين؛ فينطلق للشوارع ويتعامل بعنف وحمق مع كل شيء، وسرعان ما يتحول الحديث لنقاش حاد، والنقاش الحاد لكلام نابي، والكلام النابي إلى تشابك بالأيدي.
هذا الزمن- أيتها السيدات والسادة- زمن "خذ وهات"، لابد فيه أن نسمع بعضنا بعضاً، ونقنع بعضنا بعضاً بالحوار، لماذا؟ حتى نصبح جمعاً لا يتفرق. ما علاقة "خذ وهات" بالاجتماع والفرقة؟ عندما يصر كل طرف على خطأ الطرف الآخر، فتكون فرقة، ليمشي كل في طريق، وقد يأخذ كل فريق جبهة ويتقابلا ويتناحرا، والأمثلة كثيرة، خذ ما حدث في البوسنة والهرسك مثلاً، الأساس في كل القتل والدمار هو أن أحداً كان يكره الإسلام والمسلمين ولا يحتمل وجودهم، فارتكب قادة الصرب من أجل ذلك المآسي. وفي هذه الأيام يحاكم اثنان من قادة "الخمير الحمر" بجريمة الإبادة الجماعية، ولا أنسى مشاهد أكوام الجماجم التي كان الخمير يعرضونها مفاخرين بغزارة القتل في مناهضيهم.
تلك أحداث عاصرناها ولم نقرأها في الروايات، ورغم أن الانسان يتأقلم مع بيئته، لكن الجزء الأهم أنه يسعى للسيطرة عليها، وتبدأ المشاكل ولا تنتهي عندما يسعى الإنسان أن يسيطر على أخيه الانسان حتى لو تطلب الأمر إنهاءه. أعود للبوسنة، فقد كان الصرب يدخلون للمدينة المسلمة فيبدؤون بتفجير مساجدها! لضيقهم برسالة هذه المباني، هذا تطبيق فج لمفهوم "خذ" دون "هات"، ويهتكون أعراض المسلمات، ويذبحون الذكور من شدة حنقهم على الإسلام. بعد مضي عشرين سنة، فهل فرّجَ الصرب عن ضيقهم بما فعلوه؟ أبداً، فالأفعال النزقة لا تؤدي لحلول بل لمزيد من المشاكل والتعقيدات.
في هذا الشهر مرت علينا ذكريات مرة، ذكرت لكم بعضها من باب "أذكر نفسي وإياكم"، بقصد التفكر في أن الإصرار على الانفراد والاستئثار لا يؤديان إلى نتائج حاسمة بل إلى تكاره قد يتطور ليصبح إكراهاً وإرهاباً. ولن تجد أحدا يؤيد الإرهاب ابتداء، لكن الوصول له يأخذ منحنى متصاعدا، حتى يصل في نهايته للتقاتل. بمعنى، اننا حتى نتجنب المآلات لابد لنا من التعامل مع المقدمات بزرع مفاهيم الحوار المؤدي إلى التعايش والسلم الاجتماعي وصيانة بلداننا من المخاطر، إذ يفوت الكثيرين أن لبلدنا وضعاً محورياً في اقليمها الجغرافي وكونها العمق العربي ومستودع أقدس البقاع. ولذا، فبعد أن انفرط العقد في بلدانٍ من حولنا أو يكاد فمن يستطيع المساهمة في لملمة ما انفرط ووصل ما انقطع؟ بلدنا تأتي في المقدمة، ويقع عليها عبء كبير يفرضه موقعها ومكانتها، ويقع علينا نحن كأفراد مسؤولية في السعي للتكاتف والتفاهم من أجل مصلحة عالية لكل ما هو مؤثر في حياتنا، فاستقرار منطقتنا العربية لن يتحقق من خلال آخرين، إذ ان كلا ينظر للأمر من زاوية مصالحه، فالاستقرار الراسخ يتحقق من خلالنا جميعاً، وهذا ليس من باب الايهام والتمويه وتسطيح الأمور، بل النفاذ للمعنى العميق للمواطنة.
ومع إعادة تكوين مجلس أمناء مركز الملك عبدالعزيز للحوار، أجدها فرصة سانحة للقول ان قيم الحوار ترتكز إلى مفهوم "خذ وهات" لبناء روح الفريق، الذي يتعامل مع خلافاته واختلافاته تعاملاً يؤدي إلى أفق جديد سعياً لتعزيز أسباب القوة. وبالإمكان القول اننا أمام مرحلة جديدة يتطلب للحوار فيها أن يكون ارتكازيا، يلتف حوله المجتمع لينظر في تحدياته العامة والتفصيلية، فتحاور العقلاء لا يخلو من فائدة. أقول هذا مدركاً ان هناك من لا يعول على الحوار كثيراً بل يؤمن أن الشدّة تُصلح كل شأن، أما السؤال: أين تقع مصلحة المجتمع- أي مجتمع- في أن يتحاور أو يتنافر؟ التحاور يجلب القوة والتماسك، فيما يأتي التنافر بالتشاحن والتباغض وهي مقدمات محسومة مآلاتها.