عندما بدأت الثورة تتصاعد ضد نظام العقيد القذافي في مطلع العام ٢٠١١م من قبل ثوار المناطق والقبائل في مختلف أنحاء البلاد الليبية، دأبت قناة إخبارية مشهورة على عرض مشهد لطفل ليبي لا يتجاوز العاشرة من عمره يمزق صورة القذافي ويقول ببراءة طفل وبصوت عال: «ما عاش نبوك» أي لم نعد نريدك يا قذافي، ورحل الرجل في نهاية المطاف، وبقيت صور الطفل الليبي عند الكثيرين توازي «ارحل» التي أبدت مفعولها في مصر، و «ديقاج» التي جاءت بنفس النتيجة في تونس، ومع غياب الطفل وعبارته عن شاشة القناة الإخبارية نسيه الجميع تقريبا، وأكدت الأحداث أن هناك عوامل موضوعية عجلت بنجاح ثورة السابع عشر من فبراير في البلاد الليبية، وبلورتها إلى فعل حقيقي على أرض الواقع أبرز هذه العوامل ما يلي:
أولا: التحالف الدولي الذي ضم الدول الفاعلة في الأسرة العالمية، والتي سخرت مقدراتها لحماية الليبيين ومساعدتهم في تحقيق ثورتهم.
ثانيا: التفاعل الإقليمي العربي الايجابي مع مساندة الثورة والثوار، وتبني مهمتهم.
ثالثا: مسارعة الطرفين السابقين إلى حث الليبيين على إنتاج جسم سياسي جديد يقود الليبيين في هذه المرحلة، وكان أن برز المجلس الانتقالي الذي حل محل نظام العقيد في المنظمات الدولية والإقليمية، وقابل ممثلوه عددا من قادة العالم ممثلين للثورة والثوار في ليبيا.
رابعا: كثافة التمثيل الدبلوماسي الذي شهدته العاصمة الليبية بعد سقوط نظام القذافي، والذي كان له دور بارز في تفعيل قنوات الاتصال بين الجانب الرسمي الليبي برموزه الجديدة، وبين قيادات الدول الشقيقة والصديقة لليبيا التي بدأت في فتح صفحات جديدة للتعامل مع الليبيين في واقعهم الجديد. وبعد مضي ثلاثة أعوام على تلك الأحداث التي أصبحت من التاريخ يبدو ان تلك العناصر التي تحدثنا عنها تآكلت مع مرور الزمن بفعل مجموعة من العوامل الخارجية في المقام الأول، ثم بفعل عوامل ليبية داخلية في المقام الثاني. فبالنسبة للمجموعة الدولية اليوم هي أمام معضلة من نوع خاص؛ لكونها ترى الأوضاع تتردى بصورة مضطردة في ليبيا وتعرف جيدا أن إعادة جزء من الأوضاع إلى نصابها يعني كلفة سياسية واقتصادية عالية، إضافة إلى الخوف من تفسير أي نوع من المساعدة أو العون إلى شكل من أشكال التدخل الأجنبي في الشأن الليبي. ما قد يعني صراعا محتملا من خصوم دوليين تقليديين للناتو في هذا الميدان. وقد يكون أهم من ذلك كله أن اعتبارات هذه الدول ومحفزاتها الذاتية على متابعة الشأن الليبي وتطوراته وإدارة الصراع معه وحوله باتت أولويات تحتل مراتب اقل أهمية في سلم الفعل السياسي الدولي. وبشأن المحور الإقليمي والعربي خصوصا، كرست تفاعلات الوضع السياسي الليبي الداخلي خلال الفترة الماضية تصورات جديدة حول التوجهات العربية ومحاورها تجاه ليبيا والليبيين، وبدأت تتسم تلك الأجواء بتقارير وأحاديث عن محاور وتجمعات ذات أهداف تخريبية للوضع الأمني والاقتصادي والسياسي في ليبيا، وتعاظمت مشاعر التوجس والخوف من التدخل من الجيران المقربين في مصر والجزائر والسودان. أما بشأن أول كيان سياسي أدار البلاد الليبية بعد الثورة «المجلس الوطني الانتقالي» فكان من المفروض أن يكون قد انتح إلى الآن هيئتين سياسيتين تمثلان المواطنين «برلمان» علاوة على دستور للبلاد وترسيخ نظام جديد للإدارة في ليبيا، إلا أن كل ذلك لم يتحقق بالصورة المطلوبة، ومرت فترة المؤتمر الوطني الليبي العام بنظام التماشي مع الإدارة بالتقصير، وتمخض عنه طبقة سياسية ليبية لا ترقى إلى ثقة عموم المواطنين في ليبيا، بل أكثر من ذلك وصمت تلك الطبقة في أحيان كثيرة بالحزبية والمناطقية والمصالح الذاتية وسوء الإدارة . وإذا أضفنا إلى كل ذلك عدم قدرة الجهاز الحكومي الجديد، وهو احد مخرجات البرلمان المغضوب عليه ليبيا، على حل المعضلات التي ولدت مع الثورة كمشكلة انتشار السلاح، وتنفذ الفصائل المسلحة، وتفتت قوة الدولة العامة «الجيش» إلى قوات مناطقية وقبلية وعقدية، فلا يستغرب أن تستمر الحرب في بنغازي لما يقرب من الشهرين ثم تقفز شرارتها إلى معارك دامية في طرابلس، وتكون النتيجة الأولية لنيران الفصائل الليبية المتناحرة على المطار الدولي خروج البعثات الدبلوماسية الدولية بشكل شبه كامل من البلاد، ما يعني توقف قنوات الاتصال مع الخارج ويبقى الليبيون في مراوحة بين المعارك والحروب والقتل دون معين.