كان «المطرب الشعبي» في الأحساء -ولا يزال- وسيلة استهلاكية، يتخذه الجمهور لقضاء الوقت مع المتعة والأنس، فهو يُحيي حفلات الأعراس والمجيلسي وبعض الدعوات الخاصة للشخصيات الكبيرة والمقتدرة مادياً. ومع كل ما يمتلكه «المطرب الشعبي» من قدرة وحرفة في صنعته الفنية، وحفظه لموروثه الثقافي، واطلاعه الواسع والشامل على الفنون العراقية والمصرية واليمنية والبحرينية، إلا أنه ظلَّ مجرد وسيلة للتسلية، ولم يدر بخلد طليعة المثقفين أي فكرة تحاول أن تضع «المطرب الشعبي» في سياقه من المنظومة العلمية والأنثربولوجية.
بطبيعة الأمر فإن «المثقفين» أنواع واتجاهات ومستويات منذ ما يقرب من خمسين سنة حتى الآن، وهم نتاج بيئتهم ومستويات الوعي الاجتماعي الذي نشأوا فيه، وهم في نظري يمثلون هذه الأنواع:
المثقف الشعبي العامي.
المثقف الحاصل على دبلوم معهد المعلمين.
مثقف شركة أرامكو.
المثقف الجامعي.
المثقف الصحفي.
المثقف الأدبي.
ولكل نوع من هؤلاء المثقفين طريقته في تلقي فكرة «المطرب الشعبي»، وللتفصيل أكثر فإن «المثقف الشعبي العامي» الذي هو ابن الأرض وابن البيئة الزراعية قد احتفى بالمطرب من خلال متابعته في حفلات الأعراس والمجالس، وحفظ أغنياته وطرب لها، وهذا النوع شكل جمهوراً عريضاً أسس لفكرة «المطرب الشعبي» بوصفه رمزاً ثقافياً محلياً، كما احتفى بشراء منتجه الفني من «الاسطوانات» وساهم في تسويقها والتعريف بها لأصدقائه وربعه المقربين. وبعض من هؤلاء المثقفين كان وسيلة حماية للمطرب الشعبي من أي مضايقات ومطاردات، ولهذا النوع من المثقفين العامين وعي خاص بتصنيف «المطرب الشعبي» طبقياً واجتماعياً.
أما المثقف الحاصل على دبلوم معهد المعلمين، فقد نشأ على معرفته وسماعه للمطربين الشعبيين، لكنه في وقته عاش تشكل مرحلة اجتماعية جديدة وهي حالة كونه معلماً للطلاب في المدارس، وهذه الحالة لم تمنعه من سماع الطرب الشعبي بل جعلته ينتقل لحالة حداثية جديدة تليق به بوصفه معلماً، فانفتح على الفنون والطرب الخليجي والعربي ولم يدر بخلده أن يؤطر هذا «المطرب الشعبي» ويضعه في السياق الثقافي الذي أشرنا إليه. والأمر نفسه يكاد يتطابق مع مثقف شركة أرامكو الذي كان مستهلكاً بشكل كبير وباذخا في شراء الاسطوانات وأشرطة الكاسيت للمطربين الشعبيين، إلا أنه سريعاً ما قفز فوقهم لفنون أكثر نضجاً كالتي تنتجها العراق ومصر وخاصة محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.
وبالنسبة للمثقف الجامعي فهو على نوعين، الأول متلق ساذج رومانسي يحب الطرب الشعبي ويأنس به كحال الآخرين، والثاني متلق مؤدلج تبنى فكرة نبذ الفنون والطرب، وساهم في تأسيس خطاب ضد الطرب والمطربين.
وهناك المثقف الصحفي وهو الذي كتب في الصحافة المحلية، وصار يتابع الحركة الفنية في مسارح الثقافة والفنون، وإنتاج الملحنين والمطربين، وعمل اللقاءات والمقابلات، وبعض المقالات التي حاولت أن ترصد الحركة الفنية في الأحساء والمنطقة الشرقية، لكنها أيضاً لم تصل للعمق الثقافي الذي نشير إليه.
وأما المثقف الأديب فقد ارتبط وعيه بالأدب في فنونه الإبداعية الشعرية والنثرية، وقرأ التاريخ الأدبي القديم والحديث، وجمع عدداً هائلاً من الكتب التراثية والحداثية، لكنه لم يجعل الطرب وفنون الغناء من ضمن الأدب العام، وبذلك فقد عاش تاريخ «المطرب الشعبي» في الأحساء مُهمَّشاً على مدى قرن كامل وربما أكثر، ولم تستطع ماكينة الاستهلاك الثقافي التعليمية والاجتماعية أن ترصد وتوثق وتدرس «المطرب الشعبي»، بل صارت هذه الفكرة مصدراً من مصادر الخوف والنبذ الاجتماعي.
بقي أن أشير إلى جهود المتاحف الخاصة التي اعتنت بمنتج «المطرب الشعبي» وحافظت عليه منذ مسيرة الاسطوانات وأشرطة الكاسيت وحتى تقنية اليوتيوب اليوم، وهي جهود مشكورة وفاعلة، لكنها تحتاج لفتح السؤال الثقافي للمطرب الشعبي على مصراعيه، ووضعه ضمن سياق الثقافة التحليلية والتوثيقية معاً.