لا أتفق مع وجهة النظر المسفهة لبرنامج رمضان باعتبارها مضيعة للوقت وجوفاء لا نفع فيها أو منها سوى تضييع (أو تسلية) وقت الصائم، وهو وقت الأجدى أن ينصرف فيما له صلة بالتقرب لله في الشهر الفضيل الذي غادرنا تواً. ولطالما سمعنا عبارات من وزن رحم الله من أهدى لي عيوبي، ومقالات مطولة عن أهمية ووجاهة وضرورة النقد البناء. وفي هذا السياق لم أسمع نقداً بناء أرق وأدق وأكثر إبداعاً مما يقوله أحمد الشقيري في خواطره يتنقل من بلد لآخر لينتقي التجارب والممارسات القابلة للتطبيق، ويترك لنا فراغاً ناعماً يحرض بأسلوبه عقولنا لطرح سؤال يتكرر: لم لا نفعل هذا الأمر هنا؟! شخصياً، أجد أن البرنامج فيه قدر هائل من التجديد والأصالة، وقدر أكبر من التبسيط للحفاظ على الفكرة من أي ضوضاء أو «شوشرة» حتى تصل متكاملة صافية وواضحة للمشاهد. فكيف استفدنا من «خواطر» الذي تعاقبت عليه المواسم والسنون؟ وهنا أتحدث تحديداً عن الجهات المسئولة عن التنمية الاجتماعية والاقتصادية في بلدنا الغالي، هل انتدبت فريقاً لتفحص الجدوى الاجتماعية الاقتصادية للجهد المكثف الذي يبذله فريق عمل «خواطر»؟ وعلينا تذكر أن «خواطر» ليس برنامج منوعات، كما أنه ليس برنامج مسابقات، بل هو برنامج «كيف نصبح أفضل؟» وبرنامج «ماذا ينقصنا؟ وكيف نتممه» وبرنامج فيه الشيء الكثير من الريادة والابداع، وهو دون شك علامة فارقة في البرامج التلفزيونية النهضوية التي لا تعتمد الوعظ والسرد نهجاً بل تلجأ لخدمة المحتوى بإثبات أنه قابل للتطبيق ومزايا ذلك التطبيق في الحياة المعاشة. ولن أنصف «خواطر» في هذا الحيز، لكن القصد هنا أنه يشتمل على مادة ثرية تستحق الدراسة والتمعن والاستفادة منها عملياً، ولم لا؟ بل لم لم نستفد منها رسمياً؟
وتتعدد الجهود لإهداء العيوب أو النقد البناء، الذي لا يتوقف عند بث الشكوى و«التحلطم» بل يقرن ذلك بحلول عملية، والذي نجده يطرح أمام المشاهد بسرد مبدع عبر «كلمتين وبس»، يتناول في خمس دقائق قضية ويتحدث عنها. اتفق مع من قد لا يستسيغ أسلوب ان تسلط الكاميرا على شخص وهو يتحدث سلبياً عن ظاهرة قد تكون مكررة، لكن النقطة أن ما دامت هذه الظاهرة قائمة لم تعالج فهذا يعني أنها ما برحت مؤثرة وتستحق النقاش. لكن من الصعب أن يتهم أحدٌ «كلمتين وبس» بأنه ليس هادفاً؛ إذ تتناول الحلقة منه ظاهرة ويدور الحديث عنها بأسلوب شفهي ومباشر، وفي تارات يحوي مواجهات قاسية تقارب جلّد الذات، بل إن هناك من ذهب إلى اتهام البرنامج بأنه برنامج وعظي لقضايا مكرورة، في حين أجد أن انتقاء القضايا كان مرتبطا برؤية للمجتمع وليس عشوائياً، مما يبرر القول إن ما يطرح يستحق أن تتلقفه الجهات المهتمة بدراسة الظواهر الاجتماعية لتتمعن في الجوانب المتعددة وتجترح حلولاً وصولاً إلى توصيات وقرارات، وبذلك يصبح للنقد البناء وزن وقيمة، ويصبح لكلٍ دور في السعي لإصلاح المجتمع والارتقاء به. أما الظن أن الجهة المعنية في الوزارة أو الدائرة التي فقط بوسعها أن تطلق المبادرات وتولّد الأفكار، ففي ذلك ما سيثقل أي إدارة أو قد يحبطها، فما الإشكال في أن نتلقى من بعضنا بعضاً الأفكار النيرة والمبادرات والتوصيات والمقترحات، ليس بهدف التثاقف المجرد بل للاستفادة عبر: تعديل قرار قائم، أو استصدار قرار يحسن ما هو قائم، أو تلافي نقصاً او تقصيراً قائماً، لا سيما أننا نكرر ليل نهار مقولة «الحكمة ضالة المؤمن»، فإن أتتك الحكمة تمشي على قدمين، فلا أقل من أن تقتنصها. وبعض الرسميين يسطح فكرة «صندوق المقترحات» البالية، بأن يبتسم لأصحاب المقترحات من المراجعين، ويسقيهم الشاي، ويطلب منهم أن يدبجوا ما يجول في خواطرهم، ثم تودع أفكارهم في المستودع القصي، الذي لا يدخله نور ولا هواء.
أعود لأمرٍ ليس خافياً عنكم، وهو أن يصبح التحسين المستمر أسلوباً إدارياً متبعاً، باعتباره مرتكزا ينزع عقلية «ليس بالإمكان أبدع مما كان» من جذورها، من خلال تحفيز الأجهزة الرسمية والقائمين عليها لتحدي ذواتهم وانجازاتهم في السنوات الماضية، ليصبح لزاماً عليهم الارتقاء بأدائهم وإنتاجيتهم عاماً بعد آخر، وبذلك ستجدهم يسعون خلف أي مقترح أو تحسين قد ينطوي على الارتقاء بأدائهم وتحقيق المتوقع منهم. وريثما نصل إلى التحفيز المطلوب، أقول إن الأعمال الإبداعية الناقدة مهما تعددت أساليبها وقنواتها، سواء عبر القنوات الفضائية الرئيسية أو يوتيوب أو سواهما يمكن أن توظف إيجابياً لتنمية مجتمعنا وتحسين أدائنا.