توجد مسائل تتعلق بتعامل أهل الإفتاء في المسائل الشرعية مع مستجدات الحياة المعاصرة، والتي فرضتها الحياة المدنية بشكلها الجديد، والوسائل العلمية الحديثة، ومن بينها ما يتعلق بشهر رمضان الكريم وإثبات دخوله والأعياد الإسلامية وموسم الحج، مع أهمية هذه المسائل من الناحيتين الشرعية الاجتماعية.
فمع تقدم وسائل رصد الأهلة الحديثة المعتمدة في الشرق والغرب لتحديد دخول الأهلة على مدار العام لحساب ارتفاعات الأمواج والمد والجزر وغيرها، وهو ما وفر أدوات وسجلات سنوية دقيقة لرصد مواعيد ولادة الهلال ومدة مكوثه بعد غروب الشمس، وتوفر سجل متراكم من المعلومات المتعلقة بإمكانية المشاهدة من عدمها سواءً بالعين المجردة أو المكبرات وغير ذلك فإن حسم قضية اعتماد إثبات الأهلة برؤية العين المجردة فقط أصبحت مهمة.
وبالرغم من بعض الاختلافات البسيطة التي تمت في الماضي ونداءات أهل الفلك بأحد أمرين إما اعتماد الرؤية الفلكية بشكل مطلق محل رؤية العين المجردة استدلالاً بأنها تطور لاعتماد المكبرات التي تُري من الأحداث السماوية ما لا ترى العين المجردة، أو رفض الشهادات غير المتوافقة مع المنطق العلمي على أقل تقدير، وهو الحد الأدنى الذي يمكن اعتباره ولو بمثابة قرينة على عدم صحة الشهادات خاصة إذا تمت بصورة منفردة.
في المقابل لا يزال بعض أهل الإفتاء في هذه المسألة لا يرون إثبات أو نفي ظهور هلال العيد إلا بدليل رؤية العين المجردة من أحد المسلمين وتوفر الشهود ولو بصورة منفردة أو تعذر ذلك، بصرف النظر عن حقائق الفلك ومدى توافق هذه الرؤية مع الحسابات الفلكية، ودون النظر إلى ثورة الاتصال التي أصبح من الممكن معها معرفة خبر إثبات ظهور الهلال في أقصى بلدان العالم في ثواني معدودة.
ومع هذا فإن أصحاب هذا الرأي لم يحسموا عدة مسائل تتعلق برؤية الهلال، فهل وجود حالة رؤية بصرية واحدة مكتملة الشروط في أحد بلدان العالم يجب أن تقيد المسلمين أم أن الرؤية لا بد أن تتم في كل دولة على حدة بصرف النظر عن تعدد رؤية الهلال في دول أخرى؟ وماذا بخصوص المسلمين المقيمين في دول غير إسلامية إلى آخر المسائل التي لا تزال غير واضحة.
لكن ما قد يعيد هذا الجدل إلى الواجهة بصورة أكبر من أي وقت مضى ما نشره كثير من وسائل الإعلام من أن يوم الإثنين الموافق 28 يوليو سيكون عيد الفطر المبارك، لكن تفاصيل الخبر تشير إلى استحالة رؤية الهلال في السعودية والمنطقة العربية على الأقل بالرغم من إمكانية مشاهدته بوضوح في جهات أخرى من العالم خاصة في دول المحيط الهادي.
ومع تأكيد الحسابات الفلكية على أن يوم الإثنين هو يوم العيد فلكياً إلا أن المنطق الفلكي يرفض في نفس الوقت أية شهادات من الممكن أن تصل إلى المحاكم الشرعية في السعودية مثلاً، فعلى سبيل المثال فإن مكة المكرمة ستشهد غياب القمر بعد 11 دقيقة من غروب الشمس، ويكون عمره عندها 17 ساعة و59 دقيقة.
وهو ما سيجعل هذا الأمر غير ممكن لا بالعين المجردة ولا باستخدام المكبرات (التلسكوب)، باعتبار أن أقل وقت مكث فيه الهلال وأمكن رؤيته بالعين المجردة كان 29 دقيقة وتمت رؤيته يوم 20 سبتمبر 1990م، أما أقل عمر هلال أمكن رؤيته بالعين المجردة فكان 15 ساعة و 33 دقيقة وتمت رؤيته يوم 25 فبراير من نفس العام من عدة مدن أمريكية.
وحتى مع توفر الشروط هذه فإن هناك عوامل أخرى قد تعيق رؤية الهلال غير مكث الهلال وعمره عن هذه القيم التي توضحها الحسابات والسجلات الفلكية للأعوام السابقة، إذ إن رؤية الهلال متعلقة بعوامل أخرى مثل زاويته مع الشمس و بعده عن الأفق لحظة رصده.
وبمعنى آخر فإن الاتجاه العام لرؤية الهلال سترتبط -شئنا أم لا-، بالمنطق وعلم الفلك وحساباته، فإن أخذنا برؤيا العين المجردة أو رؤيا العين المجردة والتلسكوب فإن عيد الفطر المبارك سيكون الثلاثاء 29 يوليو، ويجب أن لا نقبل من الآن أي شهادات لرؤية الهلال داخل المملكة لأنها مستحيلة علمياً.
أما إن أقررنا بالرؤية العلمية وولادة الهلال فعلاً، وحتمية رؤيته في بعض مناطق العالم فإن عيد الفطر المبارك سيكون حتماً يوم الإثنين القادم، لن يتم الإفادة من انتظار محاولات الرؤية بالعين المجردة التي سيقوم بها بعض المسلمين في المملكة وخارجها، وهو ما يعني أنه يمكننا اعتماد الأرصاد الفلكية.
وفي كلا الحالتين فإننا سنعتمد على الفلك في تحديد هلال شوال إما بنفي الشهادات في الحالة الأولى أو إثبات الهلال في الحالة الثانية، وهو ما يعني أن مراقبة الهلال ستنتقل من سدير وغيرها من المناطق ذات الرؤية الواضحة، والتي اشتهرت برصد هلال العيد منذ سنوات إلى مراقبة الكيفية التي ستتعامل معها الجهات الشرعية المعنية خاصة في بلدان العالم الإسلامي مع الرؤية والمنطق وعلم الفلك.