أخبرتكم سابقاً أني عندما أنهيت الابتدائية في مدرسة الجوهرية في دمشق القديمة، توجهت لوالدي - رحمه الله - وسألته: أريد أن أذهب للأحساء؟ فأخذ يثنيني مبيناً صعوبة الحياة بعيداً عن أمي وإخوتي وأن الأحساء حارة الطقس، لكني كنت مُصراً. ويبدو أنه لم يكُ رافضاً بشرط موافقة والدتي.
رتب الوالد النواحي اللوجستية لرحلة لَمّ شملي مع الأرض التي عشقتها سمعاً قبل أن يقع عليها ناظري. وعندما أزف وقت الرحيل، وقعتُ على قدميّ والدتي وودعت إخوتي، مغادراً مع أهلٍ لي كانوا قادمين من الأحساء لقضاء إجازة الصيف في دمشق. وما أن تحرك الباص من محطته في حي البرامكة حتى التفتُ للعم أبوفؤاد سائلاً: عم، لم شكل هذا الباص عجيب، نوافذه لا تفتح كأنها نوافذ الطائرة؟ قال: سيجتاز بهذا صحراء ترابية لندخل العراق عبر الرطبة والرمادي، والباص مكتوم ليحمينا من تلك الأتربة. لم أدرك تماماً ما قال، إلا عندما وصلنا الرطبة لأجد أن التراب قد كسا الوجوه فأصبحت السحنات رمادية متشابهة. سألني العم مازحاً: أتريد العودة، فهذه بداية المشوار؟ طبعاً: نظرت إليه بثقة "شاغورية" قائلاً: لا عمي! أخذ يضحك، وقال: سنصل بغداد وستجدها تنافس دمشق جمالاً، سنذهب للنهر وستشاهد "الرصافة والجسر". أدركت أني أمام شخصية لطيفة ومثقفة وتتمتع بالكثير من المرح. وبالفعل عبرنا الصحراء، فوجدت جمالاً يختلف عن جمال الياسمين الذي ألفته نفسي. وجدت نفسي مشدوهاً أمام رشاقة النخيل الباسقات، ثم ذهبنا إلى دجلة وتحلقنا حول سمك مسقوف، ومازحني أبو فؤاد قائلاً: أنظر إلى هذا النهر العظيم، بردى لا يقارن به. وأخذ يحدثني أن قصص العباسيين والشعراء، منها قصص علي بن الجهم. وكان عند عمي قصة لكل مكان نذهب إليه؛ هو يروي عن بغداد، فيما تسترجع ذاكرتي ما مرّ بها من أقاصيص جورجي زيدان. كانت رحلة ممتعة بالفعل قطعنا أثناءها العراق من أقصاه إلى أقصاه، حينما كان جميلاً وادعاً، أو هكذا خيل لي في سني الغضة تلك، التي لا تدرك إلا ما تبصره العين.
قال أبوفؤاد: وصلنا، هذا "الفريج" يسمى الرفعة، وهذه "سكة" الصاغة. نزلت من الباص، فلفحتني لواهيب "طباخ التمر"! حقيقة، لا يمكن لأحد أن يطلب استقبالاً أكثر دفئاً وحرارة. أما الحكايا مع أبو فؤاد فقد استمرت بعد ذلك عقوداًمن البصرة، تقاول العم مع باص صغير، اتجه جنوباً، وسرعان ما سيطر علي سلطان النوم، فما أن أفقت حتى شاهدت الصحراء مطبقة علينا من كل جهة، تقطعها شوارع وأرصفة وبيوت. توقفنا عند أقارب لنا في الكويت. كنا محل ترحيب، وأدركت أن لي في كل بلد خالات وعمات. عندما عدنا إلى الباص التفت لي عمي أبو فؤاد قائلاً: ساعات ونكون في الأحساء. كان الوقت ليلاً، وشُعَلُ آبار النفط تنثر الضياء في الصحراء الساكنة، وصوت العم يكسر من وحشتها بقصصه الممتعة.
عندما أشرقت الشمس امتلكني شعور بأن هذا اليوم سيشهد لقائي بموطن الآباء والأجداد، وصوت العم يحدثني عن النخيل والعيون، وعن المدرسة التي سأذهب لها، ويعدد لي أصدقاء المستقبل من أبناء الأسرة ممن هم في عمريّ. لم يدم الانتظار طويلاً حتى قابلتنا تكوينات رسوبية وكأنها لوحات جمالية، ثم تشكيلات كثيفة من النخيل. ثم أتى دوار ضخم، وتوقف الباص هناك قبل الظهر بساعة. قال العم: وصلنا، هذا "الفريج" يسمى الرفعة، وهذه "سكة" الصاغة، وستعيش هنا في بيت خال والدك. وغداً نذهب للأستاذ إبراهيم الحسيني لتسجيلك في المدرسة. نزلت من الباص فلفحتني لواهيب طباخ التمر! أصدقكم، لا يمكن لأحد أن يطلب استقبالاً أكثر دفئاً وحرارةً.
بعد وصولي للأحساء، توطدت العلاقة مع العم أبي فؤاد، فقد أصبحنا أصدقاء رغم فارق السنوات ورغم صرامته في الجدّ؛ فصداقتنا تلك لم تك تعفيني من إعطائه تقريراً عقب مغرب كل يوم، إذ كان علي اصطحاب دفاتري وكتبي للدكان في شارع الفوارس ليتفحصها، واستمر الوضع كذلك حتى اطمأن أني سلكت طريقي في الدراسة، فقد شاهدت ابتسامته مع أول تقرير شهري عرضته عليه، وبعدها أعفاني من التقارير اليومية. أما متابعتي له فكانت بقدر متابعته لي، فقد وجدت الرجل الذي أخذني من جلّق لهَجر باراً بوالدته أشد ما يكون البرّ، منضبطاً في حياته أشد ما يكون الانضباط. وكان مستثمراً حصيفاً وصبوراً، لكن أعماله لم تمنعه قط من التواصل مع الناس لرغبةٍ جامحة لديه بأهمية صلة الرحم والتواد بين الناس، وبذلك كان قدوة. واستمر على هذا الحال حتى عندما تقدمت به السن وأرهقه المرض؛ فكان التزامه الاجتماعي يشعرني بالتقصير الفادح مقارنة به. والأبلغ، أن التزامه كان هادئاً بسيطاً؛ فرغم بحبوحته كان زاهداً بمظاهر الأبهة عن سبق إصرار وترصد. اليوم فقدت صديقي الكبير، الذي أطلب من الله سبحانه له المغفرة والرحمة.