عندما كنت أدرس الطلبة في الجامعة بعض النظريات اللسانية الاجتماعية، كانت الدراسات الغربية تتناول مصطلح "الطبقة الوسطى" و"الطبقة الدنيا"؛ وكان الطلبة يتساءلون، وهم محقون في ذلك: ما هي الطبقة الوسطى تحديداً؟ ولماذا لا توجد في المجتمعات الغربية الصناعية "طبقة عليا"؟
فكنت أجيب عن أسئلتهم، بأن تحديد الطبقة الوسطى في المجتمعات الرأسمالية الغربية سهل؛ فهو يقوم على حصر بعض المهن العليا في المجتمع، التي يتقاضى أصحابها دخلاً مرتفعاً (مع تفاوت نسبي بالطبع فيما بينهم)، ويحظون كذلك بمكانة اجتماعية تناسب تلك الوظائف التي يتبوأونها. وهي في الغالب فئات الأطباء والمهندسين والمحامين ورجال الاقتصاد (في البنوك والمؤسسات المالية) ممن يحتلون مواقع رفيعة، خلافاً لصغار الموظفين في تلك المؤسسات، إلخ تلك المهن التي يحتاجها المجتمع باستمرار، وينظر أفراده إلى أصحابها بإجلال.مؤخراً ظهرت بعض الدراسات ووسائل التحليل الطبقي في المجتمعات الحديثة، خلال بداية الألفية الثالثة، تقول إن ذلك التقسيم الثنائي لم يعد كافياًوفيما يخص السؤال الثاني المتعلق بعدم وجود "طبقة عليا" في المجتمعات الغربية الصناعية، فلأن الثورة الصناعية قد قضت على الإقطاعيين الذي يحتكرون الموارد والبشر، ويمتصون تبعاً لذلك اقتصاد المنطقة التي يتولون الإقطاع فيها. بالطبع يوجد أثرياء عندهم حالياً، ولكنهم كونوا ثرواتهم من خلال عملهم أولاً في وظائف الطبقة الوسطى، أو من خلال التوريث؛ وهي نسبة قليلة جداً، ولا يقاس عليها في الدراسات العلمية، التي تتناول قطاعات عريضة من المجتمع.
أما المشكلة الكبيرة، فهي في تقسيم الطبقات الاجتماعية وفقاً لتلك النظريات في مجتمعاتنا الشرقية. فإذا نظرنا إلى أصحاب تلك الوظائف التي تنظر إليهم الدراسات الاجتماعية الغربية بوصفهم من أصحاب الطبقة الوسطى، نجد أن دخلهم ليس عالياً، ومكانتهم أحياناً أقل بكثير من مكانة أناس لا وظائف لهم على الإطلاق، أو لهم وظائف في أسفل السلم؛ حيث يعلو بهم في الوجاهة اعتبارات أخرى غير اقتصادية ولا مهنية على الإطلاق. ومثلت لهم بأشخاص يشتغلون في وظائف دنيا في مجتمعنا، ومع ذلك يملك بعضهم عقارات ذات قيمة كبيرة؛ في حين لا يملك أحياناً مدراؤهم في العمل، أو أصحاب تلك المهن المحترمة مسكناً، أو دخلاً يتمكنون من خلاله من تهيئة مسكن مناسب لهم.
وفي المقابل، ما زالت في كثير من بلدان الشرق العلاقات الإقطاعية قائمة، مما يصعب تقسيم المجتمع إلى طبقتين كما هو في حالة المجتمع الصناعي الغربي. كما أن التداخل كبير بين الطبقة الوسطى والدنيا؛ سواء في الأوضاع المالية والمكانة، أو في السلوك ومعرفة أساليب الحياة وتربية الأولاد وتعليمهم، التي يتميز بها أفراد الطبقة الوسطى عن الدنيا في المجتمعات الغربية.
ومؤخراً ظهرت بعض الدراسات ووسائل التحليل الطبقي في المجتمعات الحديثة خلال بداية الألفية الثالثة، تقول إن ذلك التقسيم الثنائي لم يعد كافياً؛ فالثراء لم يعد يوصف به المرء إيجاباً أو سلباً. بمعنى أن من يملك أموالاً تكفيه للضروريات، وتحقيق الكماليات التي يحتاجها في الغالب أفراد طبقته، ويتبقى لديه من المال ما يتمتع به في إجازات خارجية وسفر للمتعة، أو يستثمره في توفير مالي للمستقبل، يعد ثرياً؛ وخلافه يعد وسطاً، نزولاً إلى حد الكفاف. لا.. هذا المقياس لم يعد قائماً؛ بل إن هناك الثري، والأكثر ثراء، وفاحش الثراء. وأن تحسر أفراد الطبقات الفقيرة على الوسائل التي يرونها بين أيدي تلك الفئات المتصاعدة والمتنافسة في ثرائها يزداد مع تزايد الفارق، وتراكم الأموال في أيدي أولئك، مع زيادة العجز لدى من هم دون العتبة. فهل يستعصي إعادة التقسيم من جديد في ظل هذه المتغيرات؟