إذا كنا نتكلم عن الوعي المعرفي الإنساني، فإن أهم منجزات العصر الحديث هو الوعي التاريخي، أو قل إن شئت، النزعة التاريخية، لأنها ليست (نظرية) بالمعنى الدقيق، وإنما هي نزعة أو رؤية تنظر من خلالها وتؤثر على رؤيتك للأشياء، أعتقد أنني بحاجة إلى عدة مقالات للحديث عن هذا المفهوم وأثره في وعينا، وأهمية هذا المنجز على مستوى المعرفة، لكن سأكتفي بما يسمح به مقال أو مقالان.
هناك توجس كبير من إدخال النزعة التاريخية في الفكر الديني، وهناك اعتقاد سائد أن التاريخية حين تدخل في فهمنا للدين فسيكون مؤداها أن الدين حدث في زمان ومكان ما، ولم يعد صالحا لغيره من الأزمنة والأمكنة، وهذا المعنى مرفوض ولا علاقة له بالنزعة التاريخية التي أريد الحديث عنها.اللغة هي مخزن الثقافة، وهي نظام الأفكار وهي وسيلة التواصل، وهي الجانب الموضوعي في الإنسان، وهي شديدة التاريخية، هي ابنة الزمان والمكان التاريخية ببساطة هي موضعة الشيء في زمانه ومكانه، وهذا وصف عام يحتاج إلى كثير من التفصيل، لكن أن تموضع الشيء في زمانه ومكانه لا يعني أنك تحكم عليه بعدم صلاحيته، وإنما أنت تقرؤه ابتداء في سياقه التاريخي.
العقل يقوم بذلك بكل بساطة وسهولة دون مزيد من التعقيد النظري، حين تقرأ كتابا له سياقه التاريخي المختلف عنك، كأن تقرأ مثلا حوارات أفلاطون ومنطق وفلسفة أرسطو، فأنت تستدعي نصوصا مر عليها أكثر من ألفي سنة، ومن بيئة ثقافية مختلفة، هناك في اليونان، حيث المجال التداولي يختلف عن المجال التداولي في الشرق، أنت تقرأ تلك النصوص، وتلتقي معها وتقوم بعملية تأويل لها، وهي تشتغل في عقلك، بل إن هذه النصوص تشتغل في الواقع، وهو ما نسميه بالتراكم المعرفي، التراكم يعني أنه لا وجود لنص منقطع عن التاريخ، نحن امتداد للسابقين لنا، وهذا الامتداد لا يعني أننا لا نلاحظ ولا نراعي الفروق التاريخية.
حين نقرأ لفلاسفة اليونان سنغض الطرف كثيراً عن نظرتهم للمرأة مثلا، ولن نستدعي آراءهم عنها، وربما سنتجاوز عن لومهم، لأن الزمان غير الزمان، والمكان غير المكان.
في كل ثقافة هناك أسئلة ملحة، وهناك حاجات وتحديات، وهناك (مفكر فيه)، وهناك أيضا من الناحية الأخرى (اللا مفكر فيه)، وهذا اللا مفكر فيه يعني أنه في كل ثقافة هناك دائرة من الأفكار والاعتقادات من الممكن التحرر منها، وهناك أفكار أخرى لا يمكن تجاوزها، ومنجزات فكرية لا يمكن تحقيقها بحكم بشرية الإنسان التي تجعل منه ابن ثقافته وبيئته، ولا يحق لشخص في القرن الواحد والعشرين أن يلوم مفكرا في قرون ما قبل الميلاد على أنه لم يصل إلى ما وصلت إليه الفلسفات والأفكار الحديثة.
من الصعب جدا تحديد (المفكر فيه واللا مفكر فيه) في كل عصر، لذلك البعد عن لوم المفكرين أسلم من ناحية البحث العلمي، لأننا لا ندري هل كان بإمكانهم أن يصلوا لهذه الأفكار، وقصروا في ذلك أم لم يكن بإمكانهم أصلا، لكن المهم هنا أننا نقرأ ما كتبوا ونقوم بعملية تأويل تاريخية -إن صح التعبير- دون كثير من النقاش حول النظريات التاريخية.
مازال العالم يستعيد الأساطير القديمة، ويقرؤها بوصفها ثقافات تاريخية لها سياقها، ولا يعني هذا تهميشها، ولا عدم فاعليتها، وهو يصفها بالأساطير، كما أن كل ثقافة تستعيد أمجاد أسلافها لتستمد منهم القوة وتبث المشروعية.
رسول حمزاتوف شاعر داغستاني (1923-2003م)، كتب كتاباً سماه (بلدي) من الروعة بمكان، وترجم إلى العربية وهو مطبوع ومتوافر حالياً، والكتاب ملهم ومدهش في لغته ومعانيه، تود لو أنه لا ينتهي، والعجيب أن حمزاتوف كتبه باللغة الأفارية، وهي إحدى لغات داغستان لا يتحدث بها في العالم اليوم سوى أقل من ثمانمائة ألف إنسان، أي أقل من سكان مدينة الدمام، حباً للغته وتخليداً لوطنه وعرقه، مع أنه كان بإمكانه الكتابة بالروسية، ومع ذلك فقد ذاع صيت الكتاب وانتشر وهو مصدر إلهام كما ذكرت. يقول حمزاتوف: «أنا أيضا أرتدي اللباس الأوروبي، ولم أعد ألبس قفطان والدي. لكني غير مستعد أن ألبس شعري لباساً لا هوية له. أنا أريد أن تأخذ أشعاري شكلنا، الشكل القومي الداغستاني»، ويقول: « لغات الشعوب بالنسبة لي، كالنجوم في السماء. أنا لا أودّ أن تذوب النجوم كلها في نجم واحد ضخم يُغطي نصف السماء. الشمس كفيلة بذلك. لكن لندع النجوم تتلألأ هي الأخرى، ولتكن لكل إنسان نجمة».
اللغة هي مخزن الثقافة، وهي نظام الأفكار وهي وسيلة التواصل، وهي الجانب الموضوعي في الإنسان، وهي شديدة التاريخية، هي ابنة الزمان والمكان، هي صنيعته وهي التي تصنعه، لذلك فكل ما يكتب هو تاريخي بالضرورة، لأنه لا وجود للغة فوق تاريخية، مع كل هذا استطاع رسول حمزاتوف أن يكون ملهما للقارئ، وأن يشتغل في واقع أوطان مختلفة عن وطنه، من خلال ترجمة الكتاب.
في كل نص هناك ما هو قومي، وما هو كوني، اللغة تاريخية بطبعها، لكن خلف كل التفاصيل التاريخية والثقافية هناك ما إنساني، هناك جوهر واحد لو استطعنا أن نتعامل مع النص بوعي تاريخي فسنصل إليه وهذا جزء من العملية التأويلية.
العقل قادر على التفريق بين ما هو قومي وكوني في كل نص، وهو يقوم بذلك بشكل تلقائي ودون تعقيد، لذلك فكل النصوص تشتغل في التاريخ أو لنقل كل النصوص الممتازة تبقى لتشتغل في التاريخ، حتى تلك المندثرة والمنسية والتي لم يعثر عليها أحد، لقد اشتغلت يوما ما في واقع وأسهمت في إنتاج نصوص أخرى كُتب لها الخلود، فهي موجودة بغيرها، حتى وإن كانت مفقودة.