نحمل الوطن معنا أينما ذهبنا، لأنه جزء منا، تتوغل محبته في شراييننا، ويجري عشقه في دمائنا، مهما غضبنا منه أو غضب منا، فلسنا بمنجاة من سطوة محبته، ولسنا بملاذ آخر غير ملاذه الذي تغلغل ولعنا به في أعماقنا بعد أن أصبحنا منذ الولادة أحد مكوناته، وسيظل حتى الممات أهم مكوناتنا، فالوطن هو الرئة التي نتنفس منها عبير الحياة، ونتمتع عن طريقها بلذة العيش ومعناه الحقيقي.. والوطن ليس شعاراً نتغنى به فقط، وليس علماً ننضوي تحت لوائه فقط، وليس هوية نعتز بالعيش في ظلالها فقط، وليس كياناً شامخاً نفتخر بالانتماء إليه فقط، بل هو إلى جانب ذلك كله.. نبراس حياة، ومشعل هداية، وطريق إصرار لتكوين الذات، وتحديد الموقف تجاه كل أمر من أمور الحياة، ومهما كان هذا الموقف مستقلاً، يظل في جوهره وهدفه تابعاً ونابعاً ومعبراً عن الوطن، الذي يمنحنا انتصارات الحياة أو خيباتها، والذي يذيقنا لذة العيش أو قسوته، ففي كل الحالات يظل هو الوطن.. يتقدم إذا عملنا على تقدمه، ويتأخر إذا تهاونا في أداء الواجب من أجله، ففي الحالتين نحن مسئولون عما تؤول إليه أموره وأمورنا، فليس مقبولاً أن نتمرد على الوطن لأننا نعتقد أنه قصر في حقنا، ونحن الذين قصرنا في حقه، وليس معقولاً أن نطالبه بحقوقنا عندما نقصر في أداء واجباته، وبقدر ما نبذل ونجتهد ونعطي للوطن، من حقنا أن نطلب وننتظر ونأمل، وهذا منطق الحياة والأحياء.ثمة من يرتمي في أحضان أعداء الوطن بحجة تقصيره في حقهم ثمة من يرتمي في أحضان أعداء الوطن بحجة تقصيره في حقهم، وكيف لهم أن يطالبوا بحقوقهم قبل أن يقوموا بواجب خدمته، وصيانة كرامته، والحفاظ على منجزاته، والذود عن حياضه في كل الظروف وفي جميع الحالات!، فما هذا السلوك سوى عصيان يستوجب أشد أنواع العقاب، وأقسى صنوف الرفض، فلا أخلاق كريمة لمن يبيع وطنه، ولا انتماء إليه لمن يغدر به يضحي به لأعدائه، وعقوق الوطن كعقوق الوالدين، لأن الوطن هو الأم الرؤوم، وهو الأب الرحيم، وهو المأوى والملاذ، والحصن الواقي من الضياع والتشرد، وانعدام الهوية، ومن السذاجة القول: إنهم يحبون الوطن أولئك الذين يسيئون إليه! فكيف تستقيم المحبة مع الكراهية والحقد والتطاول، وانتهاز الفرص لارتكاب أبشع الإساءات إليه، بالعنف والإرهاب وترويع الآمنين؟ وما هذه الحماقات سوى تنكر للوطن، وشوكة في خاصرته، وطعنة في صميم أمنه واستقراره، وتشويه منجزاته ومكاسبه، ليس هذا حباً للوطن، بل هو ارتهان لأعدائه، وانسياق وراء أحلام أولئك الأعداء، تلك الأحلام المبنية على قناعات باطلة، تعتمد على تزييف الواقع، وتشويه الحقائق، والسائر خلفها كالسائر خلف السراب، أو كناطحٍ صخرةً ليوهنها. فلم يضرها ولكن (ضر رأسَه الخبلُ) مع الاعتذار لهذا التصرف في آخر البيت، فلسنا نخاطب وعلاً، بل نخاطب إنساناً حيد عقله، وباع ضميره، وارتهن لأعداء وطنه وأمته، فهو أقرب إلى الخبال منه إلى الوعي.. أقرب إلى الجنون منه إلى العقل، وفي الأثر: حب الوطن من الإيمان.
والوطن بمعناه العاطفي الرومانسي لا يختلف عن الوطن بمعناه الواقعي، وما قد يظهر فيه من القصور، فلا مجال للمراهنة على استقراره وأمنه، وحمايته ليست مسئولية المؤسسة الرسمية وحدها، بل هي مسئولية أبنائه جميعاً، ومن أوجب الواجبات عليهم حمايته.. وبشتى الوسائل، وإدانة الإساءة إليه.. وبشتى الطرق، وتضييق الخناق على كل من يريد به شراً.. وبشتى الأساليب، ومن يعلن الحرب على الوطن، فلن ينال سوى العار وسوء المنقلب، فالجزاء من جنس العمل، ليظل الوطن واحة أمن لكل من يعيش في رحابه، وإشراقة أمل في قلوب أبنائه، وحصناً منيعاً تتكسر دونه سهام الحاقدين، والموتورين، ومن يريدون به وبمواطنيه شراً، ومن يصمت حيال هذه الجرائم فهو شريك فيها، يحمل وزر الصمت عنها، فلا مبرر للصمت حينما تصبح الإدانة واجبة لا مجال للهروب منها، ولا مبرر للحياد تجاهها، ولا سبيل للتهاون في إعلانها بجلاء ووضوح، وهذا هو الموقف العملي الذي يفرضه واقع الحال، حتى لا يتمادى الضالون في ضلالهم، والعابثون في عبثهم، كفانا الله شرهم، وشر من يقف وراءهم، ومن حق كل مواطن أن يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي