ضرت إلى بريطانيا عام 1390م، برفقة والدي/ عبدالعزيز منصور التركي -رحمه الله- عند تعيينه أول ملحق ثقافي في أوروبا، بعد عمله مديرا للتعليم في المنطقة الشرقية؛ حيث أسس وافتتح المكتب الثقافي في لندن قرب حديقة ريجنت.
ويعود الوالد -رحمه الله- إلى منطقة (الهلالية) في القصيم، وأمضى طفولته وشبابه في المدينة المنورة، إذ بدأ رحلته مع التعليم كمدرس في أقدم مدارس المدينة "مدرسة الناصرية" القريبة من باب "الكومة" وفيما بعد انتقل إلى الأحساء، حيث أصبح أول معتمد للمعارف "وزارة التربية والتعليم" في المملكة عام 1361هـ، نتيجة حماسه ونشاطه وحبه للتعليم، إذ كان له -رحمه الله- مقدرة عجيبة على تحمل المشاق والمصاعب، في سبيل إنجاز عمله لخدمة المعلم والطالب والمدرسة، وكان الوزير حسن آل الشيخ -رحمه الله- يقول عنه: " التركي أبو التعليم"
كان -رحمه الله- في ظل توجيهات الدولة حريصاً على تشييد المدارس؛ ليتعلم كل مواطن، واهتم كثيراً بالبحث عن الأراضي وإقامة المدارس والكليات عليها، كان يتمتع ببعد النظر والتطلع للمستقبل، إذ استطاع أن يحتجز اراضي كثيرة وكبيرة لوزارة المعارف - تم الاستفادة منها فيما بعد لبناء المدارس- وكانت إذ ذاك في أماكن بعيدة، مسخرا لأجل ذلك علاقاته القوية والمتينة مع كبار الشخصيات في "الشرقية" ووزارة المعارف وإمارة المنطقة الشرقية، وبدعم ومساندة الأمير/ سعود بن جلوي -رحمه الله-، حتى قفزت في زمنه مدارس الشرقية من أربع مدارس إلى أكثر من 150 مدرسة، وازداد عدد الطلبة من 450 إلى 850.000 طالب.
كان -رحمه الله- نشيطاً وحريصاً ودائم التفقد والتعقيب في صالح المواطن والدولة، ويقوم بزيارة كل أنحاء المنطقة الشرقية، حاملاً المستلزمات التعليمية ماشياً أو راكباً، ويستعين أحيانا بالحمار لتنقلاته، حتى توفرت سيارة واحدة قديمة للمديرية، ولذلك كان -رحمه الله- لا يرد له طلب، لمعرفة المسؤولين مدى إخلاصه وأمانته وتفانيه، وحرصه على إنجاز مصالح المواطنين من دون تأخير، لكل من يقصده من عرفه أو لم يعرفه.
يذكر أنه كان من أوائل المؤسسين للعمل الصحافي في "الشرقية" بتأسيس صحيفة "اليوم" الغراء، التي أصبحت صرحاً شامخاً كما نراها اليوم، وكان أول مدير عام لها.
كان -رحمه الله- تربوياً فذاً وقيادياً إدارياً ناجحاً ومسؤولاً ناصحاً، ومن طلابه برز رجالات البلد العظام، أمثال: الأمير خالد الفيصل، الأمير سعد الفيصل، الأمير محمد بن جلوي، الشيخ عبدالمحسن المنقور -رحمه الله-، الشيخ حسن المشاري، ومعالي الدكتور محمد الملحم وكثيرون غيرهم، وأذكر أنه عندما كان لا يزال مديراً للتعليم بالشرقية كان يصطحبنا إلى بريطانيا خلال العطلة الصيفية، مع مدرسي اللغة الإنجليزية لمصلحة الوزارة، بينما كنا ملتحقين بمدارس لغة إنجليزية مع الإقامة لدى عائلة إنجليزية في مدينة ايستبورن في جنوب بريطانيا، وكنت حينها في الثامنة من العمر، وذلك -من دون شك- هو ما مكنني من إتقان اللغة بطلاقة ومثل أهلها، وعلمني أيضاً الثقة والاعتماد على النفس من مرحلة باكرة، ومن حبه للعلم جلب لنا مربية استرالية لنتمكن من الاستمرار في ممارسة اللغة الإنجليزية.
وبهذا نشأنا -ولله الحمد- برعاية هذا الوالد، المتفهم والمتدين والحنون والسخي، والذي غرس في نفسي حب العلم والاطلاع، كان يعامل البنت مثل الولد دون تمييز، بل يحرص على تعليم البنت إذ يرى أن الشهادة سلاح للمرأة لتعيش دائماً بكرامتها، أياً كانت ظروف الحياة التي واجهتها.
لقد رفض والدي العديد من المناصب العالية، وكان قبوله لمنصب الملحق التعليمي في بريطانيا لأسباب عدة، منها: رغبته أن نتعلم في أفضل المدارس والجامعات، والبنات بالذات حيث إنه كان يحترم ويقدر المرأة ويشجعها، وهو الذي دعمنا دائماً بحماسه ومساندته، ولولا إيمانه بقدرتي لما كنت على ما أنا عليه اليوم.
وعندما انتقل -رحمه الله- إلى بريطانيا كانت الملحقية الثقافية مقصد كل سعودي، سواء كان طالباً أو مريضاً أو زائراً، يرحب بالكل ويسعد بأبناء بلده، لم ينس يوماً أصله، يذهب للمطار لاستقبال الكبير والصغير بنفسه، كان كريما في ضيافته فبيته مفتوح دائماً، لا يتعب ولا يشكو ولا يتأخر، صافي النية ويرى الخير في الجميع ويحبه لهم، وكنا نرافقه في زياراته الدائمة لكبار الشخصيات وغيرهم، وأذكر أننا كنا نزود المستشفيات بالذات في عطلة نهاية الأسبوع بالجرائد والمجلات، والتمر لمساندة المريض العربي، لا أذكر يوماً أنه خلا من الضيافة والزيارة، وكان -رحمه الله- يكلفنا أنا أو أخواني لمرافقة وإعانة الزائرين، للتمشية أو ترتيب مواعيد المرضى للترجمة، ولا يزال الناس -29 سنة بعد وفاته- يترحمون عليه ويذكرونه بالخير ولله الحمد.
عند انتقالي إلى بريطانياً عام 1390 هـ - بعد إنهائي مدرسة الأطفال الداخلية في بيروت تحت رعاية الشيخ عبدالمحسن المنقور الملحق التعليمي في حينه -رحمه الله-، وعائلة العلامة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله-، الذين كانوا ولا زالوا بمثابة الأصل - التحقت بمدرسة داخلية للمرحلتين المتوسطة والثانوية، وفيما بعد حصلت على بكالوريوس طب من مستشفى الرويال فري بجامعة لندن عام 1400هـ.
وبعد ست سنوات من العمل كطبيب مقيم في اختصاصات مختلفة في القطاع الحكومي البريطاني، حصلت على مؤهلات إضافية هي دبلوم الكلية الملكية للنساء والولادة، ودبلوم تخطيط أسري من الكلية الملكية للنساء والولادة، والزمالة من الكلية الملكية للرعاية الأولية، وسجلت على قائمة سجل الأطباء البريطانيين GMC.
لقد كان والدي -رحمه الله- اجتماعياً لأبعد الحدود محبا للناس، وعن طريق المصادفة كنت معه في إحدى المناسبات التي تجمع الجالية السعودية، حينما قابلت الدكتور فهد تركي الماضي الملحق الصحي في حينه.. وكان بحق نعم الرجل، يحترم ويقدر ويشجع المرأة السعودية، وأبدى رغبته وترحيبه لانضمامي للمكتب الصحي، وفعلاً تم ذلك في صيف 1405هـ، وكان ذلك مع الأسف بعد وفاة والدي المفاجئ.
منذ ذلك الحين، بدأت أخدم الدولة والمواطن في الملحقية، على وظيفة طبيبة استشارية، قمت خلالها بأعمال الملحق الصحي بالنيابة لفترة طويلة، حتى تمت تزكيتي من قبل وزير العمل وسفيرنا سابقاً الدكتور/غازي عبدالرحمن القصيبي -رحمه الله-، صاحب الأيادي البيضاء الكثيرة، وبرأي سفيرنا في ألمانيا سابقاً معالي د/ أسامة عبدالمجيد شبكشي على تعييني ملحق صحي في بريطانيا وأوروبا عام 1416هـ، جزاه الله خير الجزاء على ثقته ودعمه.
وبعد سنتين نظراً لحجم العمل؛ اقترحت على معاليه انه قد يكون من مصلحة الوزارة والمواطن تأسيس ملحقية صحية مستقلة في ألمانيا، وهذا فعلاً ما حدث.
ووجدت خلال عملي مع الدكتور أسامة -وليس ذلك بغريب عليه- تشجيعه للمرأة ودعمه المستمر للجهود والنشاط والإخلاص الذي كان مبدأه في العمل، لكل ما فيه مصلحة الوزارة والمواطن.
لقد كان لي الشرف في العمل مع العديد من سفراء خادم الحرمين الشريفين: الشيخ ناصر المنقور -رحمه الله-، الأمير تركي الفيصل، والأمير محمد بن نواف -حفظهم الله-، في ظل قيادة حكومتنا الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-.
وقد وجدت -ولله الحمد- ترحيباً واعتزازاً من الزملاء والمواطنين، كوني امرأة سعودية عاملة تمثل بلدها في موقع حساس في الخارج، بثقة في إمكاناتي وتقدير لإهتمامي وحرصي لمتابعة المرضى بصفة شخصية، دون الاتكال على أي موظف آخر، فباب مكتبي كان مفتوحا دائماً من دون أي حاجز، وأعمل دائماً وأبداً على تصحيح الفكرة الخاطئة لدى الأجانب عن المرأة السعودية رافعة راية المملكة بكل فخر.
وبعد خدمة قاربت 30 عاماً للمواطن والوطن، تقاعدت مؤخراً من عملي في الملحقية، ولكنني لا تزال شعلة وطنيتي وغيرتي على مصلحة أهل بلدي في الخارج متقدة، ولدي النشاط والحماس ونفس الرغبة في خدمة المواطن بخبرتي الطويلة، لا سيما أن علاقاتي واسعة في القطاع الصحي البريطاني والسعودي، فاتجهت للعمل الخاص بلندن عبر مكتب خاص لتقديم الخدمات الصحية والاستشارات، داعية المولى -عز وجل- أن يمكنني من مساعدة كل من يقصدني، والله الموفق.