يعتني بعضهم بنظافة جسده بشكل يفوق عنايته بنظافة عقله. وقد يهتم بهندامه أكثر من اهتمامه بأفكاره. وبذلك يتفوق المظهر على الجوهر، أو الخارج على الداخل، فيصدق عليه المثل الشعبي القائل: «من برَّه رخام ومن جُوَّه سخام»! في هذا السياق، ولمزيد من العناية بنظافة الفم، مثلا، تم اختراع خيط تخليل الأسنان dental floss ليصل إلى ما لا يستطيع عود تخليل الأسنان الوصول إليه.
وقد وظَّف محررو مجلة أمريكية الجِناس اللفظي بين dental وmental توظيفا جيدا فاختاروا وبطريقة ساخرةmental floss عنوانا لمجلتهم التي تصدر في برمنجهام بولاية ألاباما. وهي مجلة تجمع مواضيعها بين الحقائق وسَقَط القول، وبين الجد والهزل. ويوحي العنوان في صيغته تلك بالدعوة إلى تنظيف العقل مما علق به من أفكار بالية، وإلى العناية بصحة الأذهان قبل صحة الأبدان. فكما ينخر السوس الأسنان تنخر بعض الأفكار العقول. وسواء كانت هذه المقاربة قريبة أم بعيدة عما أراد عنوان المجلة التعبير عنه، فإن هذا هو ما يوحي به إليّ كقارئ.التفكير السويّ هو ثروة المجتمعات الحقيقيةومجاراة لعنوان المجلة يمكن القول إن «تخليل» العقل هو ما يحتاج إليه العالم هذه الأيام لإحراز تفكير «نظيف» يجنبنا ارتكاب المزيد من الحماقات. ويقينا من تراكم «جير» الأفكار البالية، وما ينتج عنها من انسداد عقلي. وهو ما نحتاجه أيضا للتخلص من رواسب التربية القديمة وأساليب التلقين العقيمة التي بنت بيننا وبين العالم من حولنا أسوارا تحجب الرؤية وتكرس العزلة. تلك الأسوار أو الجدران التي شيدت حولنا على حين غرة، كما يقول الشاعر قسطنطين كفافيس: «لم أنتبه إلى أية ضجة من البنائين. كانوا غير مرئيين وأغلقوا عليَّ هنا بعيدا عن العالم». ومنذ نعومة أظفارنا والبناءون يحيطون بنا من كل جانب، يلقنون ويغسلون الأدمغة، ويتلاعبون بالعقول، ويعزفون على أوتار المشاعر، وشيئا فشيئا يجد الفرد نفسه مفصولا عن واقعه وزمانه وكذلك إنسانيته.
يصور مهندسو تلك الجدران العالمَ وكأنه حقيقة واحدة ونهائية. وهو ليس كذلك، فهو مجموعة متجاورة ومختلفة ومتنوعة من الحقائق وأنصاف الحقائق وأرباعها. ولكل شخص الحق في أن يحيط نفسه بجدران حقائقه الخاصة، وأن يغلق على نفسه داخل أقبية معزولة عن أرض الواقع. وأن يسلك دهاليز الأيديولوجيا التي تعجبه. وأن يسكن المصحة العقلية التي تناسبه. وأن يغني على ليله أو ليلاه. فهذا شأنه وحده، شريطة أن لا يُكره الآخرين على الغناء معه، أو الرقص على إيقاعات حقيقته الخاصة.
وإذا كان العائد من جنس العمل فإن حصاد تفكيرنا يتوقف على طبيعة ذلك التفكير. يلخص هذا الاستنتاج المثلُ القائل: «إنك لا تجني من الشوك العنب». أما تعليق الإخفاقات على مشجب ما، فذلك من قبيل الهروب وتعطيل مبدأ السببية، أو ليّ عنق هذا المبدأ ليتناسب مع المبرر الذي يخدم أهواءنا.
وبعد: إن التفكير السويّ هو ثروة المجتمعات الحقيقية، إذ لا قيمة للإمكانات المادية في أيدي الحمقى. وفي غياب التفكير السديد تصبح الإمكانات وبالاً على أصحابها. لقد بدد مجانين العظمة الطاقات والثروات والإمكانات، ودفعوا بها لقمة سائغة للحرائق والحروب وبقيت الخزائن خاوية والأوطان فارغة إلا من العنف والجهل والفقر. ومجاراة لعنوان المجلة نستطيع أن نؤكد أن التفكير السويّ لا يتحقق دون mental floss.