ليست الصواريخ وحدها من يعبر القارات؛ فثمة العديد من الممارسات المغلوطة في إرث الشعوب وثقافتهم تعبر إلى البعيد بل وتجتاز حتى حدود الزمن تحمل تدميراً يهلك الحرث والنسل دون ضجيج غالباً؛ سوى أن لأنات الضحايا صدىً يوسم القلوب ويحيلها إلى فراغات تتوه فيها جل المعاني والقيم التي يفترض أن تكون رافداً يحفظ للإنسانية حياض معانيها السامية, هكذا خُيل لي وأنا أقرأ لحائز الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر 2013" الروائي الكويتي سعود السنعوسي وهو يتنقل بقرائه بين الكويت والفلبين في صفحات روايته الجميلة "ساق البامبو" سارداً قصة الشاب هوزيه ميندوزا JOSE MENDOZA أو عيسى كما هو اسمه العربي الذي فقده وهو يعيش في أرض جده ميندوزا في ضواحي العاصمة مانيلا بين أشجار البامبو والمانجو والموز والأناناس بعد أن رفضت جدته الكويتية وفقاً للعادات والتقاليد زواج ابنهانحن ومجتمعاتنا بحاجة فعلاً لأن تنبت لنا ألف عين لنرى الأشياء بوضوحراشد من الخادمة الفلبينية؛ ويوغل الحفيد هناك بعيداً عن أرض والده الذي اعتقل في العراق ثم عاد رفاته فقط ضمن جموع المقاومة الكويتية التي دفنت في مقابر جماعية إبان الغزو العراقي للكويت صيف 1990م, فرغم عودته إلى أرض الأحلام التي رسمتها له والدته ظل عيسى منبوذاً من بين أفراد عائلة والده بحجج العادات التي ترفض مثل هذه الزيجة التي تخلخل العائلة وتطرد عنها النسب المحلي الأصيل؛ عموماً في سطور الرواية الكثير من النقد لتلك الظروف العقيمة مثلها مثل ظروف "البدون" التي صورها المؤلف كحالة معيبة للمجتمع الكويتي توصم واقعه بالخلل في التعامل مع جزء من نسيجه الإنساني دون أن يكون لهذه الجماعة حل جذري يستوعب حب "البدون" لأرضهم ومشاركتهم للمجتمع في كل ظروفه وتفاعلاته وحتى همومه تماماً مثل موقفهم أثناء الغزو؛ ومؤمل في الحكومات الكويتية المتعاقبة أن تنظر إلى قضيتهم بعين المسئولية تجاه مستقبل البلد وأن تفرض الحلول العاجلة التي تضمن دمجهم في المجتمع دون أن تكون قضيتهم محل استثمار لبعض ممارسي السياسة في دولة الكويت التي تعد وفقاً للمشهد السياسي من أعرق الديمقراطيات العربية وأكثرها نضجاً وفقاً لتاريخها الدستوري. أعود إلى "هوزيه" الشاب الذي فقد هويته ودينه وربما كل شيء حين قفل راجعاً إلى أرض جده ميندوزا المحارب القديم ليمارس طقوساً وعادات فرضتها ظروفه بعد أن كانت عادات مجتمع الخليج حائطاً صلداً أمام قبوله؛ أيضاً من العادات المحلية التي تجرنا لذكرها مضامين الرواية؛ تلك التفرقة بين طبقات المجتمع وحدود التواصل القاسية التي تفرض بين طبقة وأخرى وفق أسانيد موروثة لا يقرها الشرع أو النظام سوى أن ذاك العرف القبلي ظل سائداً وملتزما به ليفرز تبعات قاسية تنم عن خلل موروث يوصم مجتمعاتنا بما لا ينبغي وهو من "المسكوت عنه" غالباً؛ مما يحتم العمل نحو إزالته بالمراس الثقافي المكثف لهدم العوائق وتعزيز عرى التواصل المجتمعي دون خلفيات موبوءة. ومثلما ضمن الروائي السنعوسي روايته الحديث عن أسطورة الأناناس حين تمنت أم الطفلة "بينيا" أن تنبت لها ألف عين حتى ترى الأشياء بوضوح؛ فاستحالت الطفلة حسب الأسطورة في البلاد الاستوائية إلى ثمرة صارت تعرف لاحقاً باسمها Pinya أو Pineapple وهي الأناناس؛ فنحن ومجتمعاتنا بحاجة فعلاً لأن تنبت لنا ألف عين لنرى الأشياء بوضوح لنتجاوز معاً بعض موروثاتنا البالية.