ألف أستاذان في جامعة شيكاغو الأمريكية المرموقة (University of Chicago) كتاباً شهيراً بعنوان «الدفعة الخفيفة: تحسين القرارات المتعلقة بالصحة والرفاهية والسعادة» (Nudge: Improving Decisions about Health, Wealth, and Happiness). أحدهما متخصص في علم الاقتصاد وهو ريتشارد ثايلر (Richard Thaler)، والآخر في القانون وهو كاس سانستين (Cass Sunstein). ويعتني الكتاب بكيفية الاستفادة من أبحاث علم الاقتصاد السلوكي لصياغة الأنظمة والقوانين لمساعدة المجتمع على اتخاذ القرارات الصحيحة، وينصح الكتاب بهندسة الخيارات بشكل يشجع الأفراد على اتخاذ قراراتهم بما يناسب مصلحة المجتمع، وبالتالي تسهيل تحويلها إلى عادة للمجتمع. وحصل الكتاب على اهتمام كبير من عدد من الحكومات، فقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتعيين سانستين رئيساً لمكتب المعلومات والشؤون التشريعية (Office of Information and Regulatory Affairs)؛ للاستفادة من أفكار الكتاب وتطبيقها، وقامت المملكة المتحدة بإنشاء فريق البصائر السلوكية (Behavioural Insights Team) وأصبح ثايلر مستشاراً لهم.المال بحد ذاته ليس أفضل حافز على العمل والإنتاجيةوهذا يقودني لتتمة الحديث عما كتبت عنه في المقال الماضي عن تعويد الناس في مجتمعنا على الالتزام بالنظام، وعن ضرورة التطبيق الصارم لعقوبات فعالة من أجل تحقيق ذلك. وبالطبع فإن المجتمعات تختلف فيما بينها، سواء في القيم التي يراد تشجيعها فيها أو المشاكل التي تواجهها أو في طبيعة المجتمع وطرق تحفيزه. لكن احد أهم نتائج أبحاث الاقتصاد السلوكي هي أن المال بحد ذاته ليس أفضل حافز على العمل والإنتاجية، ولا أفضل وسيلة للعقوبات والردع. وإذا صح هذا في المجتمعات الغربية، فلعله ينطبق على مجتمعنا بشكل أكبر، ففي تقديري أن تحسسنا من المخالفات المالية أكبر من غيرنا بالذات كوننا لم نعتد مثل غيرنا على الضرائب، بل ونطلق اسم الضريبة على أي رسم مالي مهما كان بسيطاً، بل وقد تؤدي الغرامات أو العقوبات المالية أحياناً إلى نتائج عكسية، كما هو المشاهد في حالة ساهر ونظرة كثير من الناس له على أنه نظام جباية، بل إن بعض نقاطه أصبحت تشكل خطراً مرورياً، نظراً لعدم تعود السائقين على الالتزام بالسرعات المحددة فيقوم الكثيرون بالتهدئة المفاجئة عند كاميرات ساهر، مما يجعلهم وغيرهم من السائقين النظاميين عرضة للخطر. فالعقوبة الرادعة، ليست مالية في جميع الأحوال، بل قد يكون حجز السيارة لمن تتكرر منه المخالفة أفضل، أو تكليفه بعمل لخدمة المجتمع وهي من أكثر طرق التعزير فائدة للمجتمع بعموم. وكما كتبت سابقاً مراجعة الحد الأعلى للسرعة بالزيادة المناسبة ضروري لاحتواء قدر أكبر من السائقين في حدود النظام، وعدم إجبارهم على المخالفة.
وعلى الصعيد الاجتماعي فإن التشهير أفضل علاج ليس فقط للمعاكسين، بل وحتى للمدخنين أو عدم الملتزمين بالآداب العامة. على أن يكون نظاماً حكومياً أو عملاً مؤسسياً وليس فردياً لئلا يتحول إلى مكايدات شخصية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تقوم المجمعات التجارية بتعليق صور المدخنين في داخل هذه المجمعات، أو من يقومون بإيقاف سياراتهم بشكل خاطئ خارجها، ويستطيع رواد هذه الأماكن المساهمة في ذلك عن طريق تصوير المخالفين وتسليم إدارة المجمع هذه الصور لنشرها!
أما على المستوى الفردي، فقد يستطيع الأفراد المساهمة في تطوير المجتمع عن طريق إحراج غير الملتزمين بالنظام. فعلى سبيل المثال، لا يحق لشخص يقف في طابور أن يدخل آخر أمامه، إلا إذا استأذن من جميع من يقف خلفه في الطابور وقبل ذلك الشخص الذي يريد أن يسبق غيره، لكنه يستطيع أن يترك مكانه له ويعود ليقف في آخر الطابور، ولعل هذا يحرج الشخص المخالف ويشجعه على النظام في المستقبل. هذا بالنسبة للواقفين في الطابور أما المسؤول عنه أو مستقبل الواقفين فيه فينبغي عليه بالطبع ألا يسمح بحدوث الفوضى فيه ودخول أناس من خارجه على من يقف فيه من قبل. وكمثال آخر لحل مشكلة فوضى الأحذية والنعل -أجلكم الله- خارج المسجد يستطيع إمام المسجد أو غيره من رواده إحراج الفوضويين بقيامهم بتعديل الفوضى بأنفسهم.
وبالطبع فالعبرة عند الحديث عن النظام هي بالأعم الغالب المشاهد يومياً، وليس بالاستثناءات التي لا يخلو منها مجتمع ولا زمن. وعند التعود على النظام فإن الحاجة إلى العقوبات تنتفي تلقائياً، وعندما تصبح مخالفة النظام نادرة، يتمكن الناس من التعاطف مع ظروف من عندهم ضرورة أو حاجة ملحة وتغليب إحسان الظن بهم.