تعتبر المعلومة المحاسبية المفُصح عنها في ميزانيات الشركات، سواءً كانت مساهمات مغلقة أو عامة، هي الركيزة الأساسية والطبيعية لصنع القرار الاستثماري بالنسبة للمستثمرين والمساهمين في أسواق المال أو قرارت الإقراض بالنسبة للبنوك والمؤسسات المالية الأخرى، علاوة على مستفيدين آخرين من هذه المعلومات، كالجهات الحكومية والموظفين والموردين وجميع من تربطه علاقة قانونية أو مالية بالشركة المُفصِحة. لذا فإن هذه النوعية من المعلومات ذات أثر كبير في المساهمة في نهضة وتطور أي اقتصاد حُر وحديث في يومنا هذا. ووجود معايير ذات جودة عالية لتضبط كمها ونوعيتها وجودتها أمر غاية في الأهمية. ولنا في الفضائح المالية بداية العقد الماضي للعديد من الشركات الأمريكية والأوروبية خيرُ عِبرة في مدى أهمية وجود معايير محاسبية تحدُ بشكل فعال من التلاعب المحاسبي في الإفصاح عن الأداء المالي للشركات، المساهمة منها خصوصاً، وتساعد بقدر كبير في إخراج معلومات مالية ذات جودة عالية.
وقد أصدرت الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين مؤخراً قراراً بالتحول التدريجي إلى استخدام المعايير المحاسبية الدولية الصادرة عن المجلس الدولي للمعايير المحاسبية في أوروبا. ويجدر الذكر هنا أن المملكة حالياً تتبع جملة من المعايير المحاسبية «السعودية» التي تم استقاء ركائزها الأساسية من المعايير الدولية والأمريكية بجهود سابقة وتم التعديل عليها عبر السنوات لتتلاءم مع احتياجات المستثمرين ومستخدمي المعلومات المالية في المملكة. ولكن ثَبتَ بالتجربة العملية أن متابعة وتطوير هذا النوع من المعايير هو أمر بالغ الصعوبة ويحتاج إلى الكثير من المتابعة للتطورات المالية والتنظيمية التي تطرأ دورياً على المناخ التجاري والاقتصادي في المملكة وخارجها، على حدٍ سواء. وعليه فإن الاستمرار على هذا المنهج يؤدي إلى معايير أقل جودة واستمرارية على المدى الطويل. ويجدر الذكر هنا أن المملكة ظلَّت، حتى عهد قريب، الدولة الوحيدة بين مجموعة العشرين الاقتصادية التي لم تتحول بعد أو تضع خطة للتحول للمعايير الدولية. وواجهت المملكة في هذا الصدد ضغوطات دولية للتحول للمعايير الدولية تمكنها من مواكبة المتغيّرات الاقتصادية على الساحة الدولية. وهنا توصلت الهيئة إلى ملاءمة التحول إلى المعايير الدولية التي يتم تحديثها دولياً بشكل دوري لتتلاءم مع المتغيرات الاقتصادية والتشغيلية للمنشآت التجارية. وأقرَّت الهيئة مؤخراً أن يتم إلزام جميع الشركات والمؤسسات التجارية في المملكة بتطبيق المعايير الدولية في إفصاحها عن ميزانياتها وأدائها المالي الدوري بداية من غرة عام 2017م. وهنا قد يتساءل القارئ، ما مميزات هذه المعايير مقارنة بما نحن عليه الآن؟ وهل سيصحب هذا التغيير أي تطور حقيقي في كَم ونوعية المعلومات التي تفصح عنها الشركات؟ هذا ما أود تسليط الضوء عليه اليوم.
تحمل المعايير الدولية العديد من المزايا التي حدَت إلى اليوم بأكثر من 116 دولة حول العالم أن تعتمدها أو تضع خططا واضحة للتحول إليها عن قريب. وتعد أحد أهم مزايا المعايير الدولية أنه يتم إصدارها وتحديثها بشكل دوري وبعد دراسات واستشارات مستفيضة من أهل الخبرة في المجال على المستوى الدولي تشمل جميع ممثلي الجهات المعنية بأي معيار جديد. وهذا في حد ذاته يضمن أن المعايير المعمول بها في المملكة تكون دائماً حديثة ومتناسقة ومواكبة لمتغيرات المال والأعمال داخلياً وخارجياً، ويساعد المملكة في مواكبة التطوُّرات الاقتصادية في ظل العولمة. علاوة على أن المعايير الجديدة من شأنها أن تشكل بيئة محفزة للاستثمار الخارجي تزيد من شفافية المعلومات المالية للشركات السعودية والأجنبية على حدّ سواء. بالإضافة إلى أن استخدام المملكة لمعايير موحدة مع كبرى القوى الاقتصادية في العالم سيساعد المستثمرين في مقارنة المعلومات بين الشركات المحلية والدولية وبالتالي اتخاذ قرارات استثمارية ناجعة، يزيد على إثرها حجم التبادل التجاري الدولي والاستثمار المتبادل مع تلك الدول. وأكثر ما يميز المعايير الدولية درجة مرونتها في التطبيق مما يجعلها تتلاءم مع أكثر من بيئة تجارية بحالاتها وظروفها. فهي معايير مبنية في تطبيقاها على المبادئ الأساسية للإطار الفكري العام بنظرية المحاسبة، على عكس المعايير الأمريكية مثلاً التي تضع حدودا وضوابط معينة للتطبيق تكون أكثر عرضة للاستغلال والتطويع من قبل المتلاعبين. فوجود مثل هذه القواعد التي تحدد أرقام ونسب احتساب الأصول والإيرادات وطرق عرضها، ثبت علمياً أنه يفتح المجال «لهندسة» المعاملات التجارية من قبل الشركات لتتلاءم مع طريقة الإفصاح التي تحسن من أداء الشركة على الورق وتظهرها في أزهى صورة ممكنة في حدود المعيار الذي يحكمها.
ولكن يخطئ من يعتقد أن المعايير الدولية ستكون عصاً سحرية تحسن من مستوى الإفصاح عن أداء الشركات عموماً بدون عواقب أو صعوبات. فهذه المعايير التي يمكننا وصفها بأنها مبنيَّة على فهم الغرض من الإفصاح أكثر من القانون بنصه، تساعد المحاسب ومدقّق الحسابات في تطبيق روح المعيار لا اتباعه حرفِيَّا. لكن مثل هذا التطبيق في واقعه يتطلب فهما عميقا للمفاهيم المحاسبية ووجود البيئة المالية والخبرات الإدارية المناسبة للتعامل مع نصوص المعايير وتفسيرها والاجتهاد في تطبيقها بشكل سليم. ونضرب هنا مثالاً لتتَّضح الصورة أكثر. المحاسبة على الأصول الثابتة (كالعقارات والأراضي والمُعِدَّات) في المعيار السعودي تتم على أساس التكلفة. فعند النظر في ميزانية أي شركة مدرجة في السوق السعودي تكون القيمة المفصح عنها هي تكلفة هذا الأصل مخصوماً منه قيمة إهلاكه التي تتراكم عبر السنوات من استخدامه واستنفاد خدماته للشركة. أما المعيار الدولي للأصول الثابتة، مع كونه يحمل نفس طريقة المعاملة للأصول الثابتة، إلا أنه يتيح أيضاً للمحاسب إعادة تقييم الأصول بشكل دوري على أساس قيمتها العادلة والتي عادة ما تكون هي القيمة السوقية. ومع أن القيمة السوقية قد تبدو أكثر ملاءمة لاتخاذ قرار عن قيمة الشركة عموماً وقدرتها على جني الأرباح، لكن ليس لها مرجعية واضحة للتأكد من صحتها وعدالتها. فما هو مدى الثقة التي يمكن أن يضعها متخذ القرار في قيمة مقدرة لآلة أو عقار. ويقاس على هذا المثال الكثير من المواضيع الأخرى في المعايير الدولية التي تتيح مجالاً للاجتهاد في قياس أو تصنيف عملية معينة كأصل أو تكلفة تشغيلية، فاتحةً بذلك إمكانية تضارب أو اختلافات في الأرقام المعلن عنها بين شركات تمتلك أصولا أو عمليات متشابهةً!.
وتكمن الخطورة هنا في أن البيئة التجارية والشركات والمحاسبين والقانونيين والجهات المعنية الأخرى في المملكة لابد أن تكون مهيأة فعلياً للتعامل مع هذه النوعية من المعايير التي تتطلب تطبيقا من أُناس مؤهلين علمياً بشكل جيد وملمّين جيداً بالمبادئ الأساسية للفكر المحاسبي، ويتَحلونَ بالجرأة الكافية في الاجتهاد المنطقي والعلمي في هذا المجال. أضف إلى ذلك أن الجامعات لا بد لها أن تتخذ خطوات فعلية وجريئة في تحويل مناهجها الدراسية للمحاسبة إلى العمل بالمعايير الدولية وإخراج جيل من المحاسبين من أبنائنا قادر فعلاً على مواكبة التحول في خلال ثلاث سنوات. فحتى يومنا هذا تظل جامعة الملك فهد للبترول والمعادن هي الجامعة الوحيدة التي نجحت في تحويل مناهجها منذ عام 2011م لتتواكب مع التغيير القادم. وأطرح تساؤلا هنا: كيف بنا أن نتوقع خريجي الجامعات الأخرى أن يكونوا قادرين على مواكبة المتطلبات الجديدة التي ستظهر في سوق العمل عند تخرجهم بعد سنوات معدودة؟.
أما على مستوى الشركات والمؤسسات فهي محتاجة إلى العمل الدّؤُوب منذ الأمس على استقراء التغيِّرات القادمة وقياس مدى أثرها المتوقع على عملياتهم وأداء موظفيهم وإصدار تقاريرهم المالية. وإذا استدعى الأمر، فلا بد لهم من استشارة أهل الخبرة لقياس هذا التأثير والعمل على تصحيح مساراتهم بشكل تدريجي وسلس حتى تاريخ التحول. إضافة إلى المشاركة في ورش عمل وندوات ودورات متخصصة تثقيفية عن مدى أهمية وفائدة التغيير هذا عموماً وطرق تطبيقه المثلى وقد يتجه البعض إلى القول بأن التحوُّل قد لا يكون مناسباً في الوقت الحالي أو آتٍ بسرعة عالية لا تتيح لنا الاستعداد بشكل كافٍ لإحداث التغيير اللازم. ولكنني أعتقد صدقاً أننا لن نكون مستعدّين بشكلٍ كامل مهما طالت أو قصرت فترة التحول، فالتأجيل والتواكل ليس هو الحل. فلا بد لنا من المثابرة في التحول وتوعية الشركات والمؤسسات، وتجهيز الجيل القادم من المحاسبين للإمساك بدفة التغيير قدر ما أمكن في الفترة القادمة. أما الصمت وتجاهل «الفيل القابع في الغرفة» وكأنه ليس موجوداً فسيؤدي حتماً إلى عواقب وخيمة على الشركات وأنظمتها المالية وأسواق المال تباعاً. وليكن لنا في حملة تصحيح العمالة الأجنبية وتحول الأنظمة فيها عبرة وعظة. إضافة إلى كوني من مؤيدي هذا التحول لما فيه من جدوى وفائدة عامة، بإذن الله، إذا ما أُحسن التعامل معه وتم تطبيقه بشكل سليم.
* أستاذ مساعد في المحاسبة
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن