الاقتصاد هو علم الندرة، ويستند إلى توزيع الموارد النادرة على الاحتياجات اللامتناهية للإنسان. إذن، فندرة الموارد تحتم أن تكون تكلفة أي سلعة أو خدمة هي تكلفة السلعة، أو الخدمة البديلة الأخرى التي يتم الاستغناء عنها، ففي النهاية ليست كل الخيارات متاحة. ومن الثابت اقتصادياً أنك لا تستطيع إفادة الجميع في آن واحد، «You can not make everybody better off»، أي أن أي قرار يجب أن يستند على الأولويات بهدف تعظيم المنفعة. وتعظيم المنفعة كلياً على المستويين الفردي والاجتماعي، يجب أن يتم تناوله ضمن المدى الزمني المناسب، أكان المدى قصيراً أم طويلاً، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة الخيارات المتاحة، وتفاوت التكلفة وتكلفة الفرصة البديلة على المدى الزمني، الذي يجب أن يكون المدى الطويل في مجالات التخطيط المدني والاجتماعي والاقتصادي.إعادة الزراعة وغيرها قد تؤدي إلى الانتظار أجيالاً، قد يخسر الجميع منها، أي أن المردود منها أقل بكثير من إزالة وتدمير الغابات الحالية. لذا، نجدد النداء إلى صناع القرار للحفاظ على غابات المانجروف بحزم لأن هنالك أيادي خفية تهدم البيئة لمصالح مادية آنيةوبعد مقالة الأسبوع الفائت عن جريمة المانجروف البيئية بتبعات اقتصادية واجتماعية، جاءت بعض التساؤلات التي قد تعتبر منطقية، كما طفت على السطح بعض المقولات التي يتم اجترارها بسطحية تفتقد إلى أي سند، ويتم تكرارها بصيغة الاستجداء بشكل غريب، وسبب غرابتها كونها مقولة واحدة وكفى، دون أي توضيح أو دعم للطرح يمكن من بناء حوار موضوعي. وبالإمكان تلخيص أطروحات المؤيدين؛ لتعطيل التنمية الوطنية المستدامة المبنية على التنمية البيئية والاقتصادية والاجتماعية، والداعين إلى تدمير البيئة وغابات المانجروف في محورين. المحور الأول: هو أن الحفاظ على غابات المانجروف فيه حفاظ على النباتات والشجر، بينما الإنسان هو أهم من الحجر والشجر. والمحور الثاني: أن مِنح المخططات التي تستدعي اقتلاع وتدمير غابات المانجروف هي ملك لأفراد، وفي الحفاظ على غابات المانجروف وعدم إزالتها تعد على حقوق الأفراد الذين تم منحهم من قبل الدولة هذه الأراضي قبل عدة عقود من الزمن.
بتناول المحور الأول للمعارضين للحفاظ على غابات المانجروف، والقائلين في هذا المقام أن «البشر أهم من الحجر والشجر»، لنا وقفة لتحليل هذه المقولة العامة وغير الدقيقة، عند تناول موضوع غابات المانجروف وأهمية الحفاظ عليها. بداية، إذا وضعت أمام أي شخص سوي حجرة وشجرة وإنسان، ثم قمت بسؤاله أي هؤلاء هو الأهم؟ فستكون إجابتنا جميعاً: البشر أهم من الحجر والشجر. ولكن، إذا كان الحجر يحمي من فيضان سيقضي على قرية بأكملها، ومئات أو ألوف البشر إذا ما تمت إزالته، فستكون إجابة الشخص السوي هي الحفاظ على البشر، من خلال الحفاظ على الحجر في مكانه الذي يحمي من الفيضان، دون المساس بشخص واحد قد يستفيد من إزالة الحجر. وفي نفس السياق، إذا كان شجر المانجروف يحمي ألوف العوائل وسبب رزق لهم من خلال تكاثر الأسماك والكائنات البحرية وصيدها، وصناعة السفن، والعاملين في صيانتها، ومن يصنعون أدوات الصيد ويقومون بصيانتها، ومن ينقل المنتجات، ومن يزن الأسماك، ومن يبيعها، ومن يحفظها، ومن يتاجر بها، والمصانع القائمة على الثروة البحرية، وإلى آخره من النتائج الجانبية الإيجابية للاقتصاد والمجتمع ككل، فإننا هنا أيضاً نحافظ على البشر من خلال الحفاظ على الشجر. فيجب أن يتم التأكيد هنا بأن الخيار ليس بين بشر يسكنون البيوت على قبور المانجروف والشجر، بل هو بين بشر وبشر آخرين عددهم أكبر وحاجتهم أكثر، وهم في أمس الحاجة إلى الثروة البحرية واستدامتها، عن طريق الحفاظ على قنوات الحياة البحرية التي منها غابات المانجروف.
أما المحور الثاني، المتعلق بكون مِنح المخططات التي تستدعي اقتلاع وتدمير غابات المانجروف هي ملك لأفراد، وفي الحفاظ على غابات المانجروف وعدم إزالتها تعد على حقوق الأفراد التي تم منحهم من قبل الدولة هذه الأراضي قبل عدة عقود من الزمن، فإن هناك ما يسمى بالمصلحة العامة والمصلحة الوطنية. فعلى سبيل المثال، تم نزع ملكيات عدد كبير من العقارات في عملية توسعة الحرم للمصلحة العامة، وتم نزع ملكيات خاصة في المنطقة الشرقية، ودفع التعويض الملائم لإنشاء مشاريع نفع عام وذات مصلحة وطنية، كإنشاء مستشفى في مدينة مكتظة بالسكان. ولكون تبعات اقتلاع أشجار المانجروف تشمل مخاطر وخسائر اقتصادية بتبعات اجتماعية، فإن حقوق من تم توجيه المنح لهم بالإمكان تعويضهم بأراض في مواقع أخرى، أو بقيمتها السوقية حفظاً للحقوق، وحفاظاً على حقوق الألوف ممن سيتضررون من إزالة غابات المانجروف، ويعتاشون على ثروات خليجنا، والذين سيتضررون من التعدي الجائر على البيئة. ويجب هنا ملاحظة، أن منح أرض سكنية على أنقاض المانجروف سيفيد عائلة واحدة لمرة واحدة فقط، وقد تضر على الأقل عشر عوائل يومياً، وعلى الدوام وليست لمرة واحدة إذا ما تم حسابها اقتصادياً بدقة، وأخذاً في الحسبان تكلفة الفرصة البديلة.
وأخيراً، أخذ خيار يعني حساب تكلفة الفرصة البديلة والتكاليف التي قد تنجم عنها؛ لأن الموارد ناضبة، ومحاولة تجديدها صناعياً، وإعادة الزراعة وغيرها قد تؤدي إلى الانتظار أجيالاً، قد يخسر الجميع منها، أي أن المردود منها أقل بكثير من إزالة وتدمير الغابات الحالية. لذا، نجدد النداء إلى صناع القرار للحفاظ على غابات المانجروف بحزم، لأن هنالك أيادي خفية تهدم البيئة لمصالح مادية آنية، تضر دون شك بالاقتصاد والمجتمع على المديين المتوسط والطويل. * باحث وكاتب اقتصادي