كان لي صاحب أحبه، وأستلطف أحاديثه ومؤانسته، لكنه أحادي التفكير، وكان يصدّع رأسي بكثير من نصائحه؛ فكلما زرت بلداً، وعرف أني سأمكث فيه لبعض الوقت، يبدأ في إسداء النصائح المتوالية: احرص على تجنّب كذا وكذا.. وهناك مطاعم في منطقة كذا لازم تروح لها.. في غيرها ما راح تجد طعاماً يرضيك، أو ترتاح له أو جلسته.
وعجزت أن أردد على مسامعه: يا صاحبي لا تتعب نفسك في النصائح، فأنا أولاً سأجد ما أتناوله في أي بلد أسافر إليه، وثانياً من أبلغك خطأ بأني أود الاستمرار في تناول ما تعودت عليه في بلدي، أو ما سبق أن جربته من مأكولات. فأحد أهم أسباب سفري اكتشاف العوالم الأخرى، وعادات الناس، والتعرف على أطعمتهم وفنونهم وطريقة لباسهم ومساكنهم وأشكال تفكيرهم. بل إنه من إدماني هذا على وسائل الاكتشاف، أصبحت أختار بعض المناطق النائية، وذات الصبغة الثقافية الخاصة في أي بلد، كما أحاول أن أجرب جميع الأطعمة، التي تتميز بها فئات شعبية في البلدان التي أزورها؛ صحيح أني أتعرض في بعض الأحيان لارتباكات في المعدة نتيجة عدم التعود على أنواع من البكتيريا لا تؤثر في البيئة التي تعتاد عليها، لكنها تسبب مشكلات للغريبين عنها، وتكون أجهزتهم الهضمية تتعامل معها لأول مرة، ولكن مع الوقت تعود بطني على أغلب بكتيريات العالم. فبذلك يا صاحبي يختصر المرء من خلال هذه التجارب طرقاً طويلة للتعرف على ثقافات تلك الفئات، وربما أنماط تفكيرها وعلاقاتها بالبيئة التي تعيش فيها.
ففي إحدى الزيارات المتوسطة زمنياً (لعدة أشهر إلى أحد البلدان المجاورة)، وبعد عدة أسابيع من الإقامة فيه، وقراءة عدد من الكتيبات واستعراض الخرائط الخاصة بمدنه وأطرافه؛ كنا في رحلة جماعية إلى إحدى مناطقه، فعندما تساءل أحد الموجودين عن طرق الوصول إلى بعض المناطق، ومميزات تلك النواحي السياحية، وجدت أني أعرف عنها أكثر من بعض أصحاب البلد الذين كانوا برفقتنا. وفي مناسبة جمعتني بأحد أكاديميينا الذي قضى سنوات عديدة يرأس معهداً في اليابان، اكتشفت أنه لا يعرف عن ثقافتهم أي شيء، ولا يتقن حتى عبارات المجاملة باليابانية؛ فهو ممن يتبع تلك النصائح.
وعندما حانت ساعة انتقامي من الصداع، الذي يسببه لي في كل مرة، وزارني في أحد البلدان الذي مكثت به لبعض الوقت؛ أخذته إلى مطعم ادعيت أنه يوافق مواصفاته. وبعد استقبال بسيط ومريح، جلسنا في إحدى زوايا المطعم المطل على ممرات مائية متعددة. فأوكل إليّ طلب الطعام، وأكلنا ما راق لنا وأعجبنا مذاقه، وطرق تقديمه والجو الإيقاعي المصاحب للطعام، وكانت بحسب وصفه: ليلة هانئة وجميلة وممتعة بكل المقاييس.
وفي الصباح عاود حديثه القديم عن النصائح، فقلت له: أظن أنه على الإنسان أن يتروى في أحكامه العامة المتعلقة بثقافة الآخرين، وخصوصياتهم التي قد يرى غرابتها، لأنه لم يعتد عليها؛ لكنها تصبح معقولة وطبيعية وفي إطار المنطق عندما يضعها في قالبها الشامل. الدنيا يا صاحبي لم توجد ليتوارث الناس شيئاً واحداً أو أشياء محددة في المأكل والملبس والفن، بل ولا في النظرة إلى الحياة. أتعلم يا صاحبي ماذا أكلت في الليلة الماضية مما أعجبك وكان من تجاربك الإيجابية كما وصفت؟ إنها شوربة السلحفاة، وأفخاذ الضفادع، التي ظننتها نوعاً من لحوم الطيور، ولم أعلق على ملاحظتك العابرة بشأنها. فبدأ يتأفف، ويصف طعم الطبقين بالغريب وذي النكهة المقززة.. وأوصاف أخرى لأصحاب المطعم وأصحاب البلد وثقافتهم في الغذاء.
قلت له: هذه ثقافة يتعود عليها الإنسان، طالما تعوّد عليها في مجتمعه، أو في عاداته التي يمارسها؛ سواء كانت في المأكل أو الملبس أو الفن؛ فإذا ذهبت إلى اسكتلندا، فسترى أن الرجال هم من يلبسون التنورات، وليست النساء كما تعوّدت أغلب شعوب العالم المتحضر. فهل أولئك الرجال يتشبهون بالنساء، مثلما يمكن أن يصفهم به بعض الشرقيين؟ لكن قل لي: هل بدأت أفخاذ الضفادع تتقافز في بطنك، أم خلق معها طبق السلحفاة شيئاً من التوازن؟ وفكّر: هل سيقبل كثير من الناس على ما نأكله من حيوانات كالضب والجربوع على سبيل المثال؟ لتعرف أنها مسألة اعتياد، وقد قال في ذلك ابن خلدون: «الإنسان ابن عوائده».