نحتاج، أحيانا، إلى كاتب مثل عزيز نسين للحديث عن عجائب البيروقراطية.
فقد كتب عن تصلّب السلوك البيروقراطي فأجاد.
لا يمكن إحراز تقدم فعال على صعيد التنمية، ما لم يتم تبسيط الإجراءات وتقليل مدة دورة المستند، وتقليص عدد الأوراق والتواقيع والأختام، فكلما تسارعت تروس الآلة البيروقراطية تسارعت معها وتيرة النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وكلما اتسعت صلاحيات المحيطين بسعادته، سارت عجلة العمل بسهولة ويسر.وفي كل مرة أواجه تصلّبا أو «بلادة» بيروقراطية أتذكر عزيز نسين، وكذلك كتابه الممتع (الحمار الميت) الذي صور فيه شَللَ الآلة البيروقراطية.
ذات يوم، راجعت إحدى دوائر القطاع العام، وبعد لفٍّ ودوران، وهرولةٍ وزَوَغان لاستكمال لزوم ما لا يلزم، نظر إلي الموظف نظرة سيبيرية، وقال: «السيستم عطلان»، ثم أضاف وكأنه مزهو بذلك الخلل: «تعرف نحن في عصر التكنولوجيا». اكتفيت بابتسامة باهتة تغني عن ألف تعليق، وتذكرت عندئذ السيد عزيز نسين.
ترى ماذا يمكنني أن أقول لذلك الموظف البسيط؟ هل أقول له: إن أداء التكنولوجيا ليس واحدا في كل البيئات، وأن مستخدم الآلة قد يترك أثرا إيجابيا أو سلبيا على أدائها، وأنه قد (يؤنسن) الآلة وينقل لها شيئا من طبيعته، ويلوّنها بلون ثقافته؟ ألا يتثاءب الحاسب الآلي وينعس، وقد يغط في النوم في بعض الأماكن، ويؤدي دوره بهمة ونشاط في أماكن أخرى؟
بعد يوم، اتصلت هاتفيا بالموظف لأعرف إنْ كان الحاسب قد شفي من وعكته الصحية.
وإنْ كانت إجراءات المعاملة التي تقدمت إليها قد «آذن فجرها بالبلج»، قال: ماذا تقصد؟ قلت موضحا: هل آتي لاستلام معاملتي؟
قال: بقيت بعض التواقيع. تذكرت أغنية طلال مداح (مقادير) وبدأتُ أرددها محرَّفة: «تواقيع يا درب العنا.. تواقيع وش ذنبي أنا.»؟
في اليوم الثالث اتصلت بالموظف فطلب مني أن آتي قبل صلاة الظهر، لأسدد الرسوم، ذهبت قبل موعد الصلاة بساعة ونصف، وانتظرت نصف ساعة أمام الكاونتر قبل أن يطلب مني سيادته التوجه إلى مكتب أمين الصندوق.
وصلت مكتب (نباهته)، فوجدت المكتب موصدا مثل قلب طاغية. عدت إلى موظف الكاونتر لأخبره أن السيد المبجل أمين الصندوق قد ذهب لأداء الصلاة قبل موعدها بساعة. ابتسم ابتسامة لا لون لها، واقترح علي العودة بعد صلاة الظهر. عدت بعد صلاة الظهر وأخذت المعاملة مبتهجا بانتهاء أخر الأحزان البيروقراطية، فما هي إلا دقائق وأحصل على التوقيع الأخير. كان ذلك توقيع الرئيس الأعلى. وجدت مكتب الرئيس مغلقا فانتظرت دوري في مكتب مدير مكتبه. بعد حين أخبرني سعادةُ مدير مكتب سعادتِه أنَّ سعادتَه «موش موجود» لكنه سوف يعود.. ثم ثبت بعد ساعة من الانتظار الممل أن سعادته «خرج ولم يعد»!
عدت إلى البيت لأبحث في معاجم اللغة عن لقب «سعادة»، فلم أجد معنى للسعادة غير الشعور بالبهجة والسرور والانشراح النفسي، فمن أين يستمد سعادته شعوره بالبهجة؟ هل يستمدها من قوله للمراجع الماثل أمامه: «لبيك وسَعْدَيك»؟ لعلنا بحاجة كي نجيب عن هذا إلى قراءة بحث موسع عن ألفاظ التخاطب التي ورثها العالم العربي من الأتراك مثل: سعادة وعطوفة وجناب ورفعة ومقام وحضرة وبقية الصفات التي تمنح للأكابر وشاغلي المناصب العليا.
وبعد: لا يمكن إحراز تقدم فعال على صعيد التنمية، ما لم يتم تبسيط الإجراءات وتقليل مدة دورة المستند، وتقليص عدد الأوراق والتواقيع والأختام، فكلما تسارعت تروس الآلة البيروقراطية تسارعت معها وتيرة النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وكلما اتسعت صلاحيات المحيطين بسعادته، سارت عجلة العمل بسهولة ويسر، سواء عاد سعادته، أم خرج ولم يعد.