كنت متيبساً وبارداً، كنت جسراً، امتد فوق واد ضيق. كانت قدماي مثبتتين في جانب، ويداي تتشبثان بالجانب الآخر.
لقد رسخت نفسي في الطين المتداعي، وكان ذيل معطفي يتطوح على جانبيّ. أسفل مني كان النبع البارد العذب يهدر، ولم يسبق لسائح أن ضل طريقه إلى هذا المرتفع الشاهق.
كما أنني لم أظهر على أية خريطة من الخرائط، وهكذا ظللت أنتظر، حيث لم يكن بوسعي فعل شيء آخر، ودون أن أسقط، حيث ليس بوسع جسر شُد طرفاه إلى ضفتين أن يتخلى عن كونه جسرًا.
كان النهار يوشك على الانقضاء - هل كانت المرة الأولى، أم أنها كانت المرة الألف؟ ليس بوسعي أن أجزم - فقد كانت أفكاري مشوشة وتتحرك في دوائر أبدية. كان يوماً صائفاً، وكان هدير النبع يتعاظم، حينما تهادى إلى سمعي وقع خطى آدمية!
كانت قادمة باتجاهي، أجل باتجاهي. أمشق قامتك أيها الجسر لتحفظ الوافد الذي منحتك ثقته! وإن تكن خطاه غير واثقة فهبه الثبات، وإذا ما حدث أن سقط فأظهر له طيب معدنك.
اقتربَ مني، ونقر فوقي بالطرف المعدني لعصاه، ثم رفع ذيل معطفي به وأعاد ترتيبه، ثم إنه دس طرف عصاه داخل شعري الكث وتركها هناك ملياً، ناسياً إياي بلا ريب حين كان يحدق فيما حوله، لكن حينئذٍ - وكنت قد نجحت في تتبع أفكاره فوق الجبل والوادي - قفز بكلتا قدميه عند منتصف جسدي تماماً.
انتفضت من شدة الألم، غير مدرك لما كان يحدث.
ترى من كان: طفلاً، حلماً، عابر سبيل، منتحراً، مغوياً، محطماً؟ استدرت كما لو كنت أريد أن أراه.
جسر يلتفت إلى الوراء! لم أكن قد استدرت تماماً حينما أخذت في التداعي. سقطت، وفي لحظات كنت قد تمزقت واخترقتني الصخور الحادة التي طالما أدامت التحديق بي في سلام وسط الماء المتدفق.
عن الكاتب:
يعتبر بعض النقاد فرانز كافكا (1883 - 1924) الرائد الأول للأدب الروائي الحداثي في أوروبا والعالم، رغم مسيرة حياته القصيرة، والعدد القليل من الأعمال التي تركها وراءه، التي كان يمكن أن تضيع إلى الأبد لو أن صديق كافكا، ماكس برود قام بتنفيذ وصيته قبل وفاته، إذ أوصى كافكا بأن تُحرق كل أعماله بعد رحيله مباشرة. اتسمت كتاباته بمسحة كابوسية تكاد تكون خاصة به، وطبعت أعماله بطابع خاص حتى اشتق من اسمه مصطلح الكافكوية لتوصيف الكتابات التي تتمحور ثيماتها أو تنم أجواؤها عن تشابه أو تقاطع ما مع ثيماته وأجوائه.
شبه الشاعر دبليو. إتش. أودن علاقة كافكا مع عصره بعلاقة كل من دانتي وشكسبير وغوته بعصورهم التي عاشوا فيها، وقال الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو عنه : إن كل من تمر عليه عربات كافكا سيفقد حتماً وإلى الأبد سلامه مع العالم.
