تابعت الدكتور محمد يوسف المُقْريف أكثر من مرة في أعقاب توليه رئاسة المؤتمر الوطني العام في ليبيا، قبل أقل من عام، مثل غيري من المتابعين للشأن الليبي، عبر شاشات التلفزة ووسائل الإعلام الأخرى، ولاحظت أن الرجل في معظم خطاباته، كان يظهر تأثراً بالغاً يصل إلى حد التوقف عن الحديث، لمُغالبة العبرات وكفكفة الدموع، وفي ذكرى يوم الدستور الليبي في أواخر شهر ديسمبر من العام الماضي، وفي مكان ذي خصوصية تاريخية في قصر الخُلد، وهو القصر الذي كان يدير منه الملك السابق محمد المهدي السنوسي البلاد ويؤسس فيها لبناء دولة عدالة وقانون، من ذلك المكان استمعت إلى كلمة رئيس المؤتمر الوطني الليبي العام، أعلى سلطة منتخبة في البلاد، وهو بالطبع واجهة البلاد السياسية أمام العالم، وكانت الكلمة مزيجا من العواطف والذكريات والتحسر والألم بطريقة لم يستطع أن يخفي دموعه، وأعتقد حينها أنتحدث بخوف أبوي عما سماه المرحلة الضبابية، والتي تعكس أزمة ثقة عالية تسود بين الليبيين، فسرها البعض بالبعد عن الأهداف الوطنية العليا، والتماهي مع المغانم الحزبية والمناطقية والعرقية، وأخطر من ذلك كله استخدام القوة المسلحة لفرض نظام أو قانون!!كثيرا من الحاضرين شاركوه التأثر، وربما الدموع. بدأت بهذه المقدمة لإلقاء الضوء في المقام الأول على البعد الشخصي والنفسي والعاطفي لهذا الرجل، الذي قدم استقالته من رئاسة المؤتمر الوطني الليبي العام في 28 مايو الماضي، وفي ظني أن هذا التاريخ سيكون أحد المنعطفات المؤثرة والتي ستترتب عليها نتائج مهمة وربما خطيرة على وضع ليبيا في المستقبل. لم يشأ السيد المقريف أن يكون موضوع الاستقالة شأنا إداريا يتم في إطار أروقة المؤتمر الوطني، واختار أن يتحدث إلى شعبه في خطاب مؤثر وصريح إلى أبعد الحدود. حيث وضع يده وبمهارة وهو رجل الإدارة والسياسة والمعارضة والحكم على حقيقة أوجاع المرحلة الليبية. وقدم خريطة واقعية ودقيقة شرح خلالها مواضع الخوف والخطر مما يحدث ومما قد يترتب على كل ذلك مستقبلاً. تحدث الدكتور المقريف بمرارة عن المرحلة التي تلت الثورة ووصف بعض مظاهر انحراف الثورة عن أهدافها، وتحدث بخوف أبوي عما سماه المرحلة الضبابية، والتي تعكس أزمة ثقة عالية تسود بين الليبيين، فسرها البعض بالبعد عن الأهداف الوطنية العليا، والتماهي مع المغانم الحزبية والمناطقية والعرقية، وأخطر من ذلك كله استخدام القوة المسلحة لفرض نظام أو قانون!! تردد كثيراً أن استقالة السيد المقريف تأتي استباقاً لقانون العزل السياسي والإداري، والذي يعني في أحد أوجهه حرمان الشخصيات التي خدمت في النظام السابق من تولي مناصب قيادية زمن الثورة، هذا القانون لا يزال يثير جدلاً وأتوقع ألا ينتهي الجدل حوله قريباً لعدة اعتبارات، الأهم من ذلك أن الاستقالة جاءت في تقديري لتقول ان الرجل يمتثل للقانون الذي ارتضاه أهل البلاد أو فئة منهم حتى وإن كان هذا القانون فُرض بوسائل غير قانونية كما يؤكد البعض وهذا ربما يعكس جزءا من مثالية شخصية رئيس المؤتمر المستقيل. إن أخطر ما حذر منه خطاب الاستقالة، أن تبقى المؤسسات الشرعية الوليدة في الدولة الليبية الحديثة وأعني بها الحكومة المؤقتة، والمؤتمر الوطني الليبي العام هياكل شكلية صورية، بينما تدار الدولة وشئون الناس بالوسائل التقليدية القائمة على قوة السلاح والعُصبة، والاعتبارات التقليدية المعروفة، الأمر الذي قد يعني إفراغ الثورة من مضامينها والعودة بالبلاد والعباد إلى ما قبل المربع الأول. بعد الاستقالة لا أعرف إن كان القانون يخول للدكتور المقريف البقاء نائباً في البرلمان، ويُمكنه من ممارسة العمل السياسي أم لا، لكني على شبه يقين من أن الرجل وبحسب معرفتي بخلفيته العلمية وشغفه بالتاريخ والبحث والتأليف، لن يعود للسياسة لتلدغه من جديد وأمامه متسع رحيب لحياته الخاصة، مع يقيني أن ليبيا وسلامة أرضها وشعبها ستبقى من الأمور التي تحتل حيزاً مهماً في فكره ووجدانه.