في حوار يتكرر عشرات المرات .. تسأل شابا عن تخصصه الجامعي الحالي أو الذي ينوي الدخول فيه مستقبلا، فيجيبك وهو يقرن جوابه بالوظيفة، فهذا التخصص يوفر الوظائف الفلانية، والطلب عليها كثيف في السنوات القادمة، فحين أتخرج لن أواجه مشكلة كبيرة في الحصول على وظيفة جيدة، وينتقل الحوار مباشرة إلى الدخل المادي والوجاهة الاجتماعية، فالشركة الفلانية الكبرى تعطي راتبا يبدأمن كذا، إضافة إلى البدلات السنوية، وتلك الشركة توفر سكنا وتعد بقرض للبناء... الخ، حديث لا ينتهي ومعلومات كثيرة ومتوفرة لدى الشباب عن مستقبل تخصصاتهم.
ربما ليس سرا أننا لم نخضع لأي محاولة جادة - أو حتى غير جادة - لاكتشاف مواهبنا حين كنا صغارا، نحن ندور في فلك هوايات معدودة ومحدودة، فحين لامست قدمنا الكرة صدفة في الحارة أو في ملعب المدرسة عرفنا هل نحن موهوبون في لعب كرة القدم أو أننا لسنا كذلك، وحين طلب منا رائد الصف أن نتحدث في الإذاعة، اكتشفنا أيضا على سبيل المصادفة ودون تدريب مسبق أننا موهوبون في الإلقاء أو أننا لسنا كذلك، إن اكتشاف مواهبنا يتم في حياتنا بناء على صدف متتالية، ولأن حياتنا محدودة في تجاربها فصدفها أيضا محدودة، فنحن لم نجرب حظنا مثلا في الاختراع أو الطيران أو المناظرة أو فن الكتابة القصصية، الخلاصة أننا لم نخضع لاكتشاف حقيقي لمواهبنا، فنحن وقد تجاوزنا سن المراهقة ولا نعي تماما ما الذي نتقنه في هذه الحياة..
فنحن نشعر بالسعادة حين نكون في المكان الذي نريد أن نكون فيه، وليس في المكان الذي نتقن العمل فيه، ولا المكان الذي يوفر لنا مردودا ماليا جيدا، الشغف لا يمكن تعلمه، إنه يخلق في داخلنا لسبب لا نعرفه، ربما نتخلى عن مجال نبرع فيه إلى مجال نكون فيه أقل درجة لأننا نريد أن نفعل ذلك.أظنكم تذكرون سوزان بيلي القروية الاسكتلندية التي جاءت بهيئتها الغريبة لتشارك في برنامج (برتيش ايدول) وقد جاوزت الخمسين من عمرها، لم تلفت انتباه أحد من لجنة التحكيم ولا الجمهور، لكنها كانت تحلم أن تكون مغنية مشهورة، وبالفعل كان أداؤها مذهلا للجميع، كانت مفعمة بالروح ومليئة بالسحر وبلغ عدد متابعيها الملايين.. لم تكن سوزان تعرف أنها تملك صوتا جميلا ولا قدرة على الغناء، لأن أحدا لم يقل لها ذلك، أو لأنها لم تخضع لاكتشاف حقيقي لموهبتها، كانت تجلس في غرفتها وتغني وحدها، هكذا قالت، فلم تتوفر الصدفة التي تكتشف موهبتها إلا بعد سن الخمسين حين قررت هي أن تتجه إلى المسرح، إننا نشبه سوزان لكننا لو قررنا أن نتجه إلى المسرح فلن نجده، وأنا هنا أخرج من ضيق المثال إلى سعة المعنى، وأعني بالمسرح ذلك المجتمع المدني المفقود.
علينا أن نتعرف على أنفسنا من جديد، سواء كنا في العشرين أو الأربعين من عمرنا أو أكبر من ذلك، حتى نعرف ما الذي نحسنه وما الذي نستطيع أن نبدع فيه، ربما يكون ذلك سببا لقرار جديد في حياتنا فنتجه إلى ما نحب بدلا من أن تستهلكنا المدينة الحديثة في سوقها.
أعرف أن الوظائف لم تعد بالوفرة التي كانت عليها، وأن شبح البطالة بات يخيف الشباب أكثر من أي شيء آخر، لذلك لا أستطيع لومهم على ربطهم التخصص الجامعي بالوظيفة وربطهم الوظيفة بالعائد المادي، لا أستطيع لومهم بقدر ما ألوم من صنع هذه المنظومة، أية حياة وأي جمال وأي سعادة في أن تقضي ثماني ساعات من يومك في عمل لا تحبه، فحتى لو كنت سعيدا بسبب ما توفره لك الوظيفة من أمان واستقرار مادي، لكن ذلك لن يجعل ثلث يومك يمضي دون أن يترك بصمته على شخصيتك.
المدهش هنا أن الموهبة ليست هي كل القصة، فكوننا نتقن عملا ما لا يعني أننا نحبه، وكوننا موهوبين في مجال ما لا يعني أننا يجب أن نتجه إليه، إن الشغف بعمل ما هو قرار داخلي يلح علينا ويخبرنا أنه علينا فعل ذلك، هذا القرار يوجد في داخلنا دون سبب واضح، ولا يهدأ ولا يشعرنا بالرضا حتى نستجيب له، فنحن نشعر بالسعادة حين نكون في المكان الذي نريد أن نكون فيه، وليس في المكان الذي نتقن العمل فيه، ولا المكان الذي يوفر لنا مردودا ماليا جيدا، الشغف لا يمكن تعلمه، إنه يخلق في داخلنا لسبب لا نعرفه، ربما نتخلى عن مجال نبرع فيه إلى مجال نكون فيه أقل درجة لأننا نريد أن نفعل ذلك.
من كانت الصدفة عاملا مؤثرا في حياته، فعليه أن يكون أكثر وعيا مع أبنائه، عليه أولا أن يتعرف على مواهبهم، على ما يتقنونه وما يبدعون فيه، وأن يبتعد عن تسلطه عليهم، فأطفالنا ليسوا ممكنات حياتنا التي لم نعشها، إنهم ليسوا قصة قصيرة ولا رواية نخلق شخصياتها، إنهم عالم متكامل علينا أن نحترمه وأن نتخذ منهم مسافة كافية حتى يشقوا طريقهم في الحياة، علينا أن نتعرف على ما يحبون، على الشيء الذي وقر في داخلهم، على قراراتهم وأمنياتهم، فربما جعلنا أمنياتهم أفضل.