هل الإنسان محب للعلم؟ وهل هو يقبل عليه رغبة فيه، أم لأجل أن يتوسل به لأغراض أخرى؟ وهل يحرص على احترام العلم وأهله، إذا لم يكن منهم، أم إنه يحترم نوعاً من العلم، يظن بأنه يملكه، ويباهي في ادعائه امتلاك ذلك العلم؟ كلها أسئلة مشروعة، وفلسفية في الوقت نفسه؛ لكن الأهم من كل هذا هو تعريفنا للعلم الذي يبدو أن المجتمعات البشرية لم تتفق على مفاهيم موحدة أو متقاربة لمدلوله.
فهناك التعريفات الأولية لمفردة العلم لدى كثير من الشعوب، بأنها الإحاطة بأي جانب من جوانب المعرفة عن الحياة أو البيئة المرتبطة بها، حتى ولو كانت تلك المعرفة خرافية أو سطحية أو مدعاة بأساليب تصنع منها قوالب معرفية. ومن تلك المعارف ما يورده ديفيد إيجلمان عن آرثر ألبرتس (الأنثروبولوجي الأميركي) الذي سافر من أجل البحث إلى القرى الواقعة بين ساحل الذهب وتمبكتو في غرب أفريقيا. ولأنه كان يعشق الموسيقى فقد أخذ معه مسجلاً يعمل على بطارية الجيب. ولرغبته في فتح آذان العالم الغربي، سجل بعض أهم ما وصل إلى العالم من الموسيقى الأفريقية. غير أنه واجه بعض المشكلات الاجتماعية أثناء استخدامه المسجل. فقد اتهم أحد السكان الأفريقيين المحليين ألبرتس، حين سمع صوت نفسه من خلال آلة التسجيل، بأنه "سرق لسانه". ولم ينجُ ألبرتس من الاعتداء عليه، إلا بإحضار مرآة ليقنع الرجل بأن لسانه لم يصب بأذى.وقد سمعت بعضهم، وهو ينتمي إلى مؤسسة أكاديمية مرموقة، يقول : كل ما هو جديد فهو خزعبلات وغير أصيل، وكأن العلم يفترض أن يكون تراثاً؛ لا تغيره مستجدات البحث والتطور الهائل الذي تحرزه المؤسسات العلمية الحقيقية، التي تفحص المنتسبين إليها، ولا تقبل أنصاف المؤهلين، فما بالك بمن هو دون النصف والربع والعشر؟.وشيء مشابه حصل في شبه الجزيرة العربية، بعد نشأة المملكة العربية السعودية؛ حيث عارض من يسمون أنفسهم علماء في نجد آنذاك الملك عبدالعزيز، عندما أنشأ الإذاعة السعودية، ولم يدحض علمهم المزعوم بأن شياطين تتكلم من خلال الراديو، إلا عندما أمر الملك بأن يبث من الإذاعة تلاوة للقرآن الكريم. فأسكتهم بأن الشياطين لا يمكن أن تقرأ القرآن، فبالتالي هذه الأداة ليست بوقاً للشياطين، كما كانوا يظنون.
المشكلة أيضاً ليست في هذا النوع من العلم، بل فيمن يدعي العلم في مؤسسات ترعى العلم حسب دورها المنوط بها، وتوظف أناساً فيها على أساس مبلغهم من العلم. لكن كثيراً من المنتسبين للمؤسسات العلمية لا يصلون إلى الحد الأدنى المطلوب في العلم الذي يفترض أنهم يشتغلون لخدمته؛ والأدهى من ذلك أنهم لا يعلمون أنهم لا يعلمون، فالتعالم أخطر بدرجات من الجهل. كما أن المواقع التي يمنحها لهم تعالمهم وعجز بعض المجتمعات عن كشف أمرهم، يضاعف السوء كثيراً؛ فيعبثون بالمؤسسات العلمية، وتصبح هي تنتج مثل أولئك الأنصاف والأرباع والأعشار، الذين يملأون النصف الثاني، والأرباع الثلاثة، والأعشار التسعة المتبقية ، بادعاءات كاذبة. ولأن الكثرة توحي بكون الأمر واقعياً، فإن العامة وأصحاب القرار يظنون ظناً حسناً بتلك المؤسسات ومنتجاتها؛ بل قد يباهون بها، ليقينهم بصدق بعض من يدعي العلم فيها.
فقد شهدت حالات في مؤسسات أكاديمية يقول أحدهم فيها : أنا أجهل هذا الشيء (الذي كان يعرض في لجنة من اللجان العلمية)، ولكني أعارضه، لأني لا أفهم فيه. فهل تظنون بأن معرفة ذلك الأفريقي الجاهل بأن صوته لا يمكن تسجيله إلا إذا سرق لسانه، أو بأن ادعاء من يسمون أنفسهم علماء بأن الشياطين تتكلم من خلال الراديو؛ خطيرة على المجتمع، أم ان الأخطر هم أولئك الناس الذين يتبوأون مواقع علمية، ليفرضوا جهلهم على أنه حجة علمية على غيرهم؟
وقد سمعت بعضهم، وهو ينتمي إلى مؤسسة أكاديمية مرموقة، يقول : كل ما هو جديد فهو خزعبلات وغير أصيل، وكأن العلم يفترض أن يكون تراثاً؛ لا تغيره مستجدات البحث والتطور الهائل الذي تحرزه المؤسسات العلمية الحقيقية، التي تفحص المنتسبين إليها، ولا تقبل أنصاف المؤهلين، فما بالك بمن هو دون النصف والربع والعشر؟
ومع الزمن تتكاثر عينات أولئك الرابضين على مواقع العلم، ليشدوه إلى الخلف، ويستخدموا المصطلحات العلمية لترسيخ الجهل، وتحدي التطور لأنه خطر على مكتسباتهم فيما يظنون. وهي عملية أسهل عليهم من أن يطوروا أنفسهم، ليلحقوا بتطور العلوم.
أتعلمون متى تكتمل عناصر الكارثة، وتتحقق شروطها؟ إن ذلك يحدث عندما يتراجع من يعلم احتراماً لعلمه، ومعرفته بمدى حماقة من لا يعلم؛ بينما يستمر الآخر لجهله، أو عدم كفاية علمه، في غيه وحماقاته.