سبقني إلى هذا العنوان مغرّدون، قالوا إن 140 حرفا لا تكفي! ولكل منهم مبرراته الخاصة. لذلك أتساءل: لماذا لا يمنح موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) المغردين باللغة العربية استثناء، فيضاعف عدد حروف التغريدة الواحدة؟ ولماذا التقتير، يا جماعة، والكلام عندنا أرخص من التراب في الصحراء الكبرى؟ وهو ليس من الفضة أو الذهب إلا عند شركات الهاتف التي تبعث لنا كل شهر بفاتورة حساب ثرثرتنا. ربما انطلق الموقع حين حدد عدد حروف التغريدة من معطيات ليس لها علاقة بالعبارة القائلة: «خير الكلام ما قلَّ ودلّ». ومع وجاهة كل الدوافع والمبررات التي رآها القائمون على تويتر، إلا أن 140 حرفا لا تناسب المغردين بلغتنا الجميلة.
الإنسان، كما يقول إميل سيوران في أحد توقيعاته، من سلالة بينها وبين الكلم حبل مجدول.. فما بالكم إذا كان ذلك المغرد من الناطقين بالعربية، وبينه وبين الكلم حُزَمٌ من الحبال المجدولة. 140 حرفا لا تكفي لمغرد خاضع لوصاية اجتماعية وثقافية تعد عليه أنفاسه خشية أن يضل الطريق، فيحلّق بعيدا عن السرب. فإذا امتلكتَ مهارة الإيجاز، والتعبير عن المعاني الكثيرة باللفظ القليل، وإذا بَرَعتَ في البيان عن فكرتك بـ 140 حرفا فقط، وليست لديك الرغبة في شرح تغريدتك الأولى بتغريدة ثانية أو ثالثة تزيل الالتباس وسوء الفهم أو سوء النوايا. فهنالك مطبٌّ آخر يتربص بك، وهو القراءة الناعسة وقراءة الإسقاط. قد يتعرض النص لقراءة تلامس السطح ولا تسبر الأغوار. ومن السهل أن نقرأ، ولكن من الصعب أن نمتلك أدوات القراءة المتأنية الموضوعية. القارئ الجيد مبدع آخر، لكن هنالك أمية مخيفة تتعلق بالتلقي وباستيعاب النص المقروء وتأويله. وهذه الأمية أسوأ بكثير من عدم المعرفة
هنالك أمية مخيفة تتعلق بالتلقي وباستيعاب النص المقروء وتأويله. وهذه الأمية أسوأ بكثير من عدم المعرفة بالقراءة والكتابة. ومكمن السوء فيها أنها تدعي الفهم فتسيء التأويل، وتحمّل النص حمولاتٍ لا صلة لها به. وتناقشك في تفاصيل لا علاقة لها بصلب الموضوع، وتحول تلك التفاصيل الهامشية إلى متن.بالقراءة والكتابة. ومكمن السوء فيها أنها تدعي الفهم فتسيء التأويل، وتحمّل النص حمولاتٍ لا صلة لها به. وتناقشك في تفاصيل لا علاقة لها بصلب الموضوع، وتحول تلك التفاصيل الهامشية إلى متن. أما أسوأ أنواع القراءة فهي القراءة الاسقاطية التي تغتصب النص، وتضع على لسانك كلاما لم تقله، وتأتي بتصورات وأحكام مسبقة جاهزة، وتصب النص عنوةً في قالب يتناسب مع نوايا الأوصياء على الحقيقة.
يبدو أن المغرد العربي بحاجة إلى 140 حرفا لكتابة الفكرة، و 140 حرفا لشرحها، و140 أخرى لشرح الشرح، وبذلك يسد الطريق على ذوي النوايا المبيتة الذين يصطادون في الماء العكر، أو يعكرون الماء ليصطادوا فيه.
فإذا كنتَ من بيئة ثقافية تكثر فيها الوصايا بصيغة «قل ولا تقل»، فقد لا يختلف حالك عن حال سرحان عبد البصير في مسرحية (شاهد ما شافش حاجة)، وقد أشرت إلى هذا المثال في كتابة سابقة. فقد ذكر سرحان عبد البصير اسم (سيد قشطه) أمام هيئة المحكمة، ثم استدرك وبسرعة قائلا: «سيد بيه قشطه.. لا يطْلَع واحدْ من مَعْرفتكم والاّ حاجةْ وتوَدُّونا في داهية»! ويرمي ذلك التحفظ أو الحذر الذي أبداه سرحان إلى سد الباب أمام أية إشكالية محتملة، وحياتنا الاجتماعية والثقافية العربية حافلة بأمثلة كثيرة مشابهة. لكل تلك الأسباب يقترح (الراجل الغلبان) سرحان عبد البصير على رعاة تويتر المقيمين خارج تلك التخوم الثقافية مراعاة الاختلاف في أنماط التفكير.