كانت مصر بلداً مغلقاً..
وكانت الشلة «الأليجركية» هي التي تملك الأضواء وتتمشى فيها، وهي التي تسمح (أو تمنع) الأضواء، وتحدد الأشخاص الذين يسمح لهم بالسطوع، وقدره، وقوة الاشعاع ومدته.
وكان الوصوليون والتافهون والانتهازيون هم الذين يحتلون الأضواء والواجهات، ومصر كلها، بكل روعتها الفاتنة، وتوهجها، تعيش في الظلام، خلف الحجب والأغطية.
ثم فجأة فتحت النوافذ وشعت الشمس على من خلف الحجب.
وتصرف كثير من المصريين مثلما يتصرف أي إنسان يعيش في الظلمات دهوراً ثم تسطع الشمس. فهو لم يعد نفسه لا ذهنياً ولا فكرياً ولا مادياً كي يعيش في الضوء.
بعضهم رأى نفسه لأول مرة، واكتشف مواهبه ومهاراته. وبعضهم أخذ يتصرف بأساليب متنوعة كي «يجرب» الحرية. وأحيانا يجرب مدى أصالة الحرية، وقدرة تحملها. هل هي حرية حقاً أم «أي كلام» مثل شعارات الاليجركية الحاكمة السابقة.
وطبعاً بعضهم بالغ في تقييم مواهبه، وقدراته، وأطلق العنان لطموحاته، مثل البسطاء الذين طلبوا ترشيح أنفسهم لرئاسة الجمهورية، مع أن بعض هؤلاء تصرف حباً للشهرة وليس أملاً بالفوز، وهم مصابون بما أسميه «وهم الثورات» لأن الثورات عبر التاريخ تغرس في وجدان الجماهير أنها مفعول سحري لكل معاناة الناس، وأنها ستجلب كل العدالة وكل السعادة وكل الحرية، بينما الواقع أن هذه آمال ومبالغات حد الأوهام ، لأن الثورات أيضاً تفرخ انتهازيين ومتملقين ومزايدين ومتهورين جدداً وأنواعاً كثيرة من مرتكبي الفظائع والأخطاء، الذين سوف يشكلون صراعات جديدة.
لا يمكن الاستخفاف بعطاء ثورات شعبية كبرى أطاحت بأنظمة مريضة متهالكة ينخرها الفساد والعياء. ولكن أيضاً للثورات ضحايا. فالإطاحة بالأنظمة الاشتراكية في بلدان الإتحاد السوفيتي السابق، جلبت الحرية، وأرست مكاسب عريضة، ولكنها أيضاً جلبت الجريمة المنظمة وكثيرا من الانتهازيين الذين يمدون الناس بالظلام والقهر والدموع.
والأمل أن تصحح الثورة المصرية أوضاعها مع مرور الوقت وأن يتمكن الناس من الفرز بصورة واعية، لتجلب الأصوات زعماء جدداً يضمدون الجراح ويصححون مسارات الاقتصاد والسياسية. والأهم يكتشفون كنوز مصر، وإبداعات المصريين المدفونة في الظلام الطويل، كي تنهض مصر مجدداً وتمد العالم العربي والدنيا بأنوارها التاريخية. والثورة المصرية هي الخطوة الأولى في طريق الألف ميل لتحقيق هذ الأمل.
..وتريا فاطمة، يا أسماء، يا آمال، يا خالد..
وجوهكم وصفحة النيل، عناق البهاء..
إذ مد الماء وآية الله، يسطر الحكاية، منذ الومضة حتى السطوع..
هذه كنانتكم أنشودة التاريخ ووسنه..
درة البهاء، إذا صبايا حقول المنشيات يغنين أناشيد الصباح..
وألم اللوعة إذ الغزاة المعبأون بالوهم، يفتنون بخصب الثرى وخلود التاريخ.