حين يكبر قليلا، وينتقل من الحيز الخاص إلى العام، تبدأ تلك المفاهيم بالتحوّل والتغيّر، فأدب الخلاف، يتحول إلى فنون الصراع، ويتبدل مفهوم (التجرد للحق)، إلى (مناصرة أهل الحق)، والذين هم في الواقع أصحابه وأساتذته وتلاميذه، تتشوّه كل تلك المعارف حول الأخلاق من خلال حسابات معقدة من المصالح والمفاسد الدينية والوطنية وحتى الإنسانية، فيكون الثناء والذم، والسكوت والكلام، وربما الصدق والكذب، جزءًا من عملية حزبية، لاتزال تسمى بـ (أدب الخلاف). ما الذي يميز الحالة الثقافية السعودية في العقود الماضية؟! وأنا أعني جميع التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية وغيرها، هل تميزت الحالة السعودية بالإنتاج المعرفي مثلا؟! ما هو عدد الكتب التي يوضع تحت عنوانها اسم مؤلف سعودي، وتُعتمد كمراجع في جامعات خارجية؟! ما هي النظريات المعرفية في شتى العلوم الإنسانية، سواء في علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو الفلسفة أو الفكر الإسلامي، التي أنتجتها رموز الحقبة الماضية؟! وما نسبة كل ذلك إلى كل تلك المقالات والأشرطة والبيانات التي تُعد ضمن صراع داخلي بين التيارات؟!
ما هي المسائل المؤثرة والمصيرية، التي تم الصراع عليها، والتي تم تجاوزها بعد أن قتلت بحثا ودراسة؟! ألا تلاحظ أن الملفات التي يتم فتحها تبقى مفتوحة؟! وأن ما قيل في أي مسألة قبل عشر سنوات هو ذاته ما يقال اليوم؟!
ما هي المسائل المؤثرة والمصيرية، التي تم الصراع عليها، والتي تم تجاوزها بعد أن قتلت بحثا ودراسة؟! ألا تلاحظ أن الملفات التي يتم فتحها تبقى مفتوحة؟! وأن ما قيل في أي مسألة قبل عشر سنوات هو ذاته ما يقال اليوم؟! ربما يقال: إن مفكري العالم العربي أرهقوا أنفسهم بالتنظير، وابتعدوا عن الواقع، وهذا ما تجنبته الحالة السعودية. حسنا، ما الذي أنجزته الحالة السعودية في الواقع؟! أين كانت حقوق الإنسان، وأين هي الآن؟! أين كان المجتمع المدني، وأين هو الآن؟! لست بحاجة إلى بيان أني لا أقصد التعميم الكامل، فهناك مثقفون وعلماء كانوا وما زالوا شامة على جبين الوطن، لكنهم عانوا كثيرا، وهُمشوا كثيرا، وكلامي هنا موجه إلى الحالة العامة التي ميزت الثقافة في السعودية. الحالة الثقافية السعودية هي أقرب ما تكون إلى حالة صراعات، غير منتجة، تسير وفق ما تمليه عليها اللحظة، لا تستطيع التنبؤ بالقصة القادمة التي سينشغل بها الشيخ والمثقف، تتفجر قضية من لا قضية، وترتفع الأصوات، ربما لأنها ملّت من صمت طويل، أو لأن ميادين رفع الأصوات باتت محدودة، أو معدومة في كثير من المجالات. لقد أمضينا عقودًا تحت الاصطفاف، وبات الجيل الحالي ضحية لتلك الحالة الثقافية، واستبشر الجميع خيرا، بظهور جيل من الشباب، رمى كل تلك العقليات خلف ظهره، ورفض تلك الشعارات، ونظر إلى تلك الجدران الوهمية، والصراعات الهامشية التي تَوهم جيل كامل بأنها مركزية، نظر إليها باعتبارها جزءًا من الماضي، الذي لا تجوز العودة إليه. ظهر جيل من الشباب، ينظر إلى الإنسان وهمومه وحقوقه، يريد أن يكون مُنتجا، فاعلا، مؤثرا، ليس في جماعته، وإنما في وطنه ولأجل دينه، لقد عانى الجيل السابق من أزمات معرفية، تتوهم التعارض بين كل المفاهيم، وتخلق الثنائيات في كل شيء، وتعتقد أن هذه الأزمات هي الثقافة وهي المعرفة، وتقيم الدنيا وتقعدها على قضايا جزئية سلوكية، وأنا هنا أتحدث عن كل التيارات، وليس تيارًا بعينه، فقد أشغلنا كثير من الليبراليين بقضايا المرأة السلوكية كما أشغلنا كثير من الدعاة بها، ولم يتم الحديث عن كون المرأة (إنسانا، ذاتا، مواطنا، منتجا)، وقس على ذلك القضايا الأخرى. ليس على الجيل الحالي سوى أن يدير ظهره للجيل السابق، والفرق بين الجيلين ليس مرحلة عمرية، وإنما حالة فكرية، وطريقة عقلية، ووعي تجاه القضايا والحلول، قد تجد شابا يحاول النفخ في نار الصراعات القديمة، وقد تجد من شاب شعره، يحاول أن يخرج بالوطن من الأزمة الثقافية، وليس سرا أن بعض البرامج الفضائية تجد سوقها في إذكاء تلك الحالة الصراعية، وإن من التيارات القديمة من تحاول لملمة شتاتها عبر إعادة تلك الصراعات، وحتى الآن لم أقل: إن حادثة (بهو الماريوت) مثال على ذلك، لكنني متأكد أنها وما تبعها كذلك.