لقد وضعت ماليزيا الحديثة رؤية واضحة، استطاعت أن تصل إلى تحقيقها في فترة قصيرة جدا، ومثل هذه الرؤى ليست خاصة بالقيادة، وإنما إرادة تنبع منها، وتقود مسيرتها، ولكن الشعب هو الذي يقوم بتحقيقها طموحا وإنجازا.
الرؤية الناضجة القوية للوطن هي المحفز الأول لأفراده، والرؤية ليست لوحة تعلق على بوابات الدوائر الحكومية، والشركات الخاصة، والمؤسسات التطوعية وحسب، ولكنها الدماء التي تجري في شرايين العاملين فيها، حينما تكون جزءا من النفس الذي يتنفسونه، وعندما أطلق جون كيندي كلمته: «أنا أؤمن بأن هذه الأمة يجب أن تلزم نفسها بتحقيق هدف قبل أن ينقضي هذا العقد، وهو إرسال رجل إلى القمر وإعادته سالما إلى الأرض»، حينها بدأ التنافس المحموم مع الروس؛ حتى قال عامل النظافة في وكالة (ناسا) لمن سأله ماذا تفعل هنا؟ قال: «أنا أساعد في إرسال أول رجل فضاء إلى القمر». اغتيل كيندي عام 1963م، ولكن الرؤية عاشت بعده وتحققت في عام 1969م، أي قبل أن ينصرم العقد المحدد.
وإني لأؤكد الدور الفردي في نهضة الأمم، فإن صناعة الحياة ليست قرارا يصدره الحاكم وحسب، وإنما هو إرادة فردية تتمرد على المصالح الشخصية، وتكبر على حظوظ النفس، وتختار الطريق الذي يجعل الرقي في بلادها يتقدم سلم أولياتها.
• وإذا كان آدم سميث أطلق فلسفته في المسؤولية الاجتماعية منذ منتصف القرن الثامن عشر، فإن من بعده حددوا آفاقها، وكشفوا عن قيمة الفرد في إطارها، وأنها تعني: «حرص الفرد على التفاعل والمشاركة فيما يدور أو يجري في محيطه أو مجتمعه من ظروف أو أحداث وتغيرات، وذلك بتلقائية ومبادأة في إطار من الإقبال على الحياة، على نحو يضمن له الشعور بتحقيق إمكانات ذاته وممارسة إرادته في دفع مسيرة مجتمعه تجاه التقدم، بحيث يسعى لمشاركة المحيطين به في نشاطاتهم الإيجابية في ضوء موجهات وقناعات ذاتية تعكس انضباطه سلوكياً».
والسؤال: هو كيف يمكن صناعة (رؤية) للبلاد، وكيف يمكن تحويلها إلى هاجس فردي، يجعل كل شاب وشابة، ينسجون أحلامهم وفق متطلباتها، وينخرطون في صفوف صناع واقعها المأمول؟
إنه الخيار الأهم ـ في نظري ـ من كثير من الأطروحات التي تبحث في مشروعات تشغل أوقات الشباب، وتلبي رغباتهم، دون أن تستثمر تلك الطاقات والأوقات المهدرة في بناء البلاد ضمن رؤية واحدة، تكون في غاية الوضوح والدقة والواقعية والطموح. ويمكن التدريب على اكتساب روح العطاء والمشاركة منذ الطفولة، حتى يتكون الضمير الجمعي، وأما نموّها فهو نتاج اجتماعي يتم تعلّمه واكتسابه من خلال تحمّل بعض المسؤوليات خلال التربية والتنشئة، والتطبيع الاجتماعي، والهدف واحد؛ كما يقول المختصون، وهو إعداد الفرد ليكون مواطن المستقبل ويكون راعياً وواعياً لذاته ومسؤولياته. لذلك لا يمكن أن نهمّش دور التربية المساعد على إذكاء الشخصية وتنمية ملكاتها (المهارات والقدرات، والحسّ الأخلاقي والوجداني، والعملي، والإرادة الفاعلة، والثقة بالنفس وروح المبادرة والإبداع في العمل). وحين يرى الشاب أن عمله يحقق أهدافا عليا، فإنه سيكون أكثر ولاء وحبا وارتباطا بوطنه. فالمواطنة ليست مقررا بات الأقل أهمية في نظر الطلاب، مع أن الوطن يستحق أن تكون له الأولية في الاهتمام، ولا سلما للتسلق عليه للمآرب الخاصة، وهو أسوأ ما قد يحدث في أي وطن، وإنما هي دين يدين به المخلص، وشغف يتغلغل في داخله، حتى يأخذ عليه روحه ولبه، فيتحول إلى مشروعات تتوالد وتتناسل حتى تصبح قبيلا من المنافع التي ينعم بها مجتمعه ووطنه. هذا بعض ما رأيته في ماليزيا..